إستقراء اسطورة سيزيف الإغريقيّة في زماننا الراهن وسط الأزمات التي لاتعدّ ولا تحصى، شقاء الإنسان على هذه الزرقاء، في دوامة من الآلام لا تنتهي. فهي دعوة لعيش عبثية هذه الأيام من دون أمل ولا رجاء. فكلّ أسطورة مشبعة بالتعاليم والمفاهيم، لتعطي الإنسان جرعات قليلة من حكمة هذا الوجود، ومعرفة مضخّمة من مشورة القدماء.
تخبر أسطورة سيزيف عن غضب الآلهة منه، ما أدّى إلى الحكم عليه من قبل إله الآلهة زيوس بحمل صخرة كبيرة يدحرجها من الأسفل إلى الأعلى، وما إن يصل إلى القمة حتى تسقط منه وتعود أدراجها. فعليه تنفيذ دوامة هذا الحكم المبرم إلى الأبد.
الاستدلال من هذه الأسطورة دوّامة الحياة في الشقاء المتعب والمضني، وليس من مخرج يريح الإنسان، ولا من وعد بحياة هنيّة، أو نسمة رجاء في خلاص ما...
اغتراب الإنسان المعاصر عن الإيمان، بعدما أفرغ تكوينه من كلّ أبعاده الروحيّة، يبست إنسانيّته وتعفّنت، وأصابها عضال الاستهلاك الفارغ، بهذا الفعل اصبحت جوفاء، ونعمة العقل التي امتاز الإنسان بها عن باقي المخلوقات، أصبحت خرساء بكماء، أمام ما يعرف اليوم بالذكاء الإصطناعيّ.
تختصر أسطورة سيزيف دراما العناء التي تعيشها الإنسانيّة من دون خلاص. بيد أنّ زمن الصّوم المبارك يوقفنا ويوقظنا من رقاد الأيّام، لنعني من جديد حقيقة إنساننا. هذا الكائن البشريّ، الذي جُبل من التراب وإلى التراب يعود، قد تناسى أن الله نفخ فيه من روحه القدوس، ليصبح إنسانًا. وتغاضى عن حقيقة هذه البشريّة التي تنكّرت للخالق بالحريّة التي أعطيت لها، رافضةً أبوّة الخالق! لذلك أرسل الله ابنه الوحيد ليعيد الإنسانيّة كلّها إليه بالتبنيّ من خلال ابنه الوحيد يسوع المسيح.
هذه الحقيقة الإيمانيّة بقدر ما هي راقية من قبل الخالق تجاه المخلوق، إلّا أنّها لم تُستوعب من قبل الإنسان بعقله المحدود للامحدود، فلم يرضَ بمحدوديته ولم يطلب معونة خالقه، إنّما ذهب ليتحّدّى الله، فحكم عليه بالصّلب والموت منتقمًا لآدم...
فالصّوم زمن عودة وتوبة وتأمل في الحقيقة الإلهيّة والإنسانيّة على حد سواء. نعم لكي نفهم الخالق غير المدرك علينا أن نفهم المخلوق المدرك، ولكي نفهم اللامحدود علينا أن نفهم المحدود.
أسطورة سيزيف تدعو إلى الإنطواء واليأس القاتل، أما حقيقة الصّليب تدعونا إلى الحياة. فلم تعد صخرة سيزيف تسحق الإنسان مقابل حقيقة المخلّص التي ترفعنا إلى العلاء.
يبقى على الإنسان أن يختار ما بين الأسطورة والإيمان شعارًا لحياته. فقد قال الفيلسوف الفرنسي بليز بسكال يوجد في عالم تساوى ما بين الضباب والنور، بمعنى يوجد ضباب ما يكفي لكي لا ترى الله، ويوجد نور ما يكفي لتراه، فيبقى على الإنسان أنّ يضيف واحد في المئة على ما يريد، فإن أضاف إلى الضباب فلن يستطيع النهوض من تحت صخرة سيزيف، وإن أضاف واحدة في الإيمان على النور أدرك بالصّليب فجر القيامة من قلب المصلوب.