يدخل المسيحيّون الأرثوذكس زمن الصوم المبارك، ابتداء من الإثنين المقبل، في رحلة جهاديّة تقودهم إلى الفصح الخلاصي.
لم يكن هذا الدخول ليتمّ من دون تهيئة روحيّة وجسديّة ترتكز على الرغبة في استقبال المسيح في بيوتنا، والتواضع في مسيرتنا الجهاديّة، التي ترجمها العشّار، بعد أن وقف من بعيد في الهيكل يقرع على صدره قائلًا: "الّلهم ارحمني انا الخاطئ". هذه المسيرة لا تنجح إلّا بالعودة إلى الآب السماوي، كمَثل الابن الشاطر، مقرّين بخطايانا، ومعطائين لأخوتنا الصّغار، لكي يجعلنا الله مع الخراف عندما يأتي ليدين العالم، ونرث المُلك المعدّ لنا منذ إنشاء العالم. كلّ ّذلك لا يتكامل إلّا بالغفران، فإن "لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ." (متى ٦: ١٥).
دخولنا زمن الصّيام لا يُبنى على أسس قويمة وصحيحة من دون الآخر، ونترجمها من خلال المحبّة المسيحيّة الحقيقيّة التي يدعو إليها الإنجيل، وعلى أساسها سيُدان البشر، وبالتالي "أن نحبّ بعضنا بعضًا"، ونتصالح بعضنا مع بعض لكي يعرف الجميع أنّنا تلاميذ المسيح وخاصّته. الصفح عن خطايا الآخرين الموجّهة ضدّنا هو مفتاح الاستجابة لطلبات الصلاة الربّانيّة، فإن الله الذي يفتح أحضانه للجميع ويشتهي أن يعطي مجّانًا بلا حساب، لا يسمع لقلب مغلق نحو الإخوة ولا يغفر لمن لا يَغفر. ما من فصحٍ دون صفحٍ.
إنّه زمن الصوم والصلاة، زمن التوبة الحقيقية، زمن الصّمت الذي يُدخلنا في خَلوة مع الله، والصّمت أفضل من الكلام احيانًا. فيه إطلاقٌ لعنان الأفكار المتدفّقة سواء المتوافقة منها أو المتصارعة، لنقول ما لم نستطع قوله بلساننا، في ظلّ الصّخب والضجيج وسيل المشتّتات الدافق بلا هوادة على رأسنا المثقل بشتّى أشكال الرياح العاتية. إن التفكّر والتدبّر والتأمّل مدخلٌ واسع للراحة النفسيّة.
الصمت يقودنا إلى الهدوء، إلى السكينة، إلى برّية عالم النسّاك الذين حاربوا الشهوات وصارعوا حيل الشرّير، وكم نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى رفض الشيطان، "وكلّ أعماله، وجميع ملائكته، وكل عباداته، وسائر أباطيله".
إنّه زمن اللسان الذي ينطق بكلام الله، بالصلوات التي فيها عودة مباركة إلى الخالق. إنّه وقتٌ ملائم لنخوض تجربة اللاهوى بمعيّة القدّيسين وعِشرة الإنجيل. هذا ليس، فقط، لكي نبتعد عن أخطاء اللسان، إنما لكي نفهم حقيقة الإنسان المدعوّ إلى القداسة.
نصوم في الكنيسة الأرثوذكسية من منتصف الليل وحتى انتصاف النهار، وننقطع عن أكل كلّ أنواع الحيوان ومشتقاته، فنستبدل طعام الدنيا بالطعام السماوي النازل علينا صلوات، وتراتيل، وألحان، وبخور، وسجدات، وتضرعات، وعطاءات، كي نغدو أيقونات "تتمشّى" بين الناس، عاكسين نور المسيح غير المخلوق. هكذا نُكمل مسيرة الجهاد، حاملين الصليب وترس الإيمان، وهكذا نتسلّق "سلّم الفضائل" بتوبة صادقة حقيقية، فندخل مع المسيح إلى أورشليم لنعيش عرسه على الصليب، فنعاين عندها نور القبر المقدّس، ونهتف بصوت عظيم قائلين: "المسيح قام من بين الأموات، ووطىء الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور".