ليس عبثاً ينبض قلبنا حباً وشوقاً لوالدتنا، أو لإنسانة كان وجودها في حياتنا مضخّة حنان، ونعتبرها كأمنا، هي العاطفة، تسير في روحنا، وتأخذنا معها إلى حيث الدفء والألفة، تتغلغل في أعماقنا ولا تتركنا، وتتفاقم نسبتها حين وفاة من نحبه، وكأننا قضينا رحلة في قطار الزمن، ويصبح هذا الشخص ذكرى موجعة، فاشتعال الحنين مع الإشتياق يولّد غصّة، لكنها سُنّة الحياة، جميعنا سنرحل في يوم ما.
"أمي يا ملاكي يا حبي الباقي الى الأبد"، بهذه الكلمات اختصرت سفيرتنا إلى النجوم فيروز، جميع معاني الحب للأم، التي لا تُنجب فقط، بل تُربي أيضاً، فعند وفاة والدتي، ترعرعت عند خالتي الأديبة والشاعرة والمؤرخة مي مر، فكانت كأمي أيضاً ومصدر شغفي.
قد أتى عيد الأم، وأنا أحمل غصّتين، فأمي وخالتي ليستا على قيد الحياة، إلا أنهما معي أينما أذهب، ذاكرتي مخزّنة بأجمل اللحظات معهما، فلترقد روح كل منهما بسلام.
خالتي مي مر ما زال صوتها الحنون يهمس إليّ، صحيح أن نبضات قلبها الدافئ المُحب قد توقفت، لكن ذلك أحيا في قلبي عاطفة لها لا تموت، أقحوان ربيع في مرج أخضر، يتمايل مع نسيم عليل، هذا المشهد من طبيعة بتغرين يذكرني بها، ولكنه لا يساوي ربع الراحة التي يعطيني إياها وجودها على قيد الحياة بقربي.
غريبة أيتها الحياة، جعلتني أدمع في عيد الأم، على أيام ذهبت ولن تعود، ألتمس أغراض خالتي بحنان، ومع كل لمسة لغرض ما، هناك مجموعة مشاعر تنتابني، تنقلني إلى ألف حكاية، تجعلني أنتفض على الواقع.. الواقع الذي خسرتها به، ومع مرور سنوات على وفاتها، قلبي تألم كثيراً، ووفائي لها انتصر. لحظة معرفتي بوفاتها أذكرها جيداً، حينها توقفت الحياة بالنسبة لي، ألقيت نظرة الوداع عليها، وحينها احترق قلبي، وما زالت دموعي تذرف على فراقها.
خالتي مي مر التي خرّجت رجال أعمال وأدباء وعظماء، كانت أمي بكل ما للكلمة من معنى، علّمتني حب والوطن والجيش اللبناني، علّمتني معنى الكرامة والانتماء، وقيمة تراب الوطن الكبيرة، وكيف نفدي وطننا بدمائنا، علّمتني أن أسير على الطريق الصحيح، وأتحاسب مع ربي قبل نومي، علّمتني الخير، كانت دائماً السند العاطفي، هي التي كتبت عن عظمة لبنان وتاريخه، هي معي في كل لحظة، وإذا لم يقدرها السياسيون الفاسدون، فهي تُقدّر عند الله، وعند الأجيال المقبلة التي ستتحدث عنها، وعن اكتشافاتها لتاريخ لبنان، كما أن الجيش اللبناني في المواقع التي درّبت فيها العديد من العناصر، سيتكلّم عنها، ستبقى أبحاثها تُدرّس من جيل إلى جيل. أفتقد صوتها كثيراً، صوتها الصارخ بالحقيقة والمحبة، عيّشتني طفولة رائعة، أخبرتني فيها قصصاً جميلة من الإنجيل، وعن البطلين هنيبعل وفخر الدين، وعن مدى فخرها بلبنان وحبها له، فهي لم تتركه، ولم يمر يوم من دون صلاتها له. الآن حيث هي في السماء، تُصلي لنا، وتعمل للبنان، صحيح أنها عانت من المرض في آخر أيامها، لكنها الآن في مكان لا وجع فيه، ولا بكاء ولا تنهّد.