الذي يراقب من كثب الحرب الدائرة على الجنوب اللبناني، ويشاهد بنفس الوقت الوضع العام في كافة المناطق اللبنانية، يتصوّر أن الجنوب قطعة من كوكب آخر، حيث أهالي الشريط الحدودي مشتتون على الخارطة اللبنانية منذ التاسع من تشرين الأول الفائت بعد يومين على عملية طوفان الأقصى، وسط إهمال رسمي واضح.
هذه الازدواجية تعيدنا بالذاكرة إلى ما قبل العام 2000، تاريخ الاندحار الإسرائيلي عن منطقة الشريط الحدودي، والتي بقيت تحت الاحتلال حتى 25 أيار من العام 2000، حيث كان أهالي الشريط مشردين على الخارطة اللبنانية، ومن بقي منهم في بيته عانى ما عاناه من اضطهاد جيش الاحتلال الإسرائيلي وعملائه، حينها كان لبنان قد بدأ بمرحلة الانتعاش الاقتصادي بعد حرب لبنانية انتهت في العام 1990، فنهضت المدن والقرى المدمرة بعد حملة إعمار كبيرة برعاية الدولة اللبنانية، إلا أن قرى الشريط بقيت خارج الاهتمام الرسمي بسبب الاحتلال، والتي لم تبدأ إلا بعد زواله وبشكل لافت.
اليوم عادت الحرب وعاد معها مسلسل التدمير للقرى الجنوبية وخاصة منطقة الشريط الحدودي، وعاد معها مسلسل التهجير القسري للأهالي، فمنهم من لجأ إلى المدارس ومنهم من لجأ إلى منازل الأقارب ومنهم من استأجر لنفسه منزلا يأويه حتى انقضائها، لكن من يرى باقي المناطق اللبنانية وكيف يمضي باقي اللبنانيون أوقاتهم فإنه يشعر بهذا الفارق، فبيروت العاصمة التي عانت من ويلات الحروب ومن تفجير المرفأ المدمّر، عادت لتضج بالسهرات حتى ساعات الصبح الأولى في شهر رمضان المبارك.
قد يقول البعض إن الناس تريد أن تفرح وترفّه عن نفسها، وهذا أمر صحيح ومسلّم به، لكن القصة أعمق من ذلك بكثير، إنها مسألة انقسام بوجهات النظر بالنسبة للبنانيين، فبعضهم لا يريد هذه الحرب ورفضها ويجاهر بذلك، والبعض الآخر يرى أنه ملزم بخوضها دفاعا عن لبنان ومساندة لغزّة، وبين هذين الرأيين انقسم اللبنانيون، ومن أبرز الأدلّة على ذلك كفّ يد الراهبة مايا زيادة التي كانت تتحدث عن الحرب الدائرة على الجنوب اللبناني لتلامذتها، وتذكرهم بالاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وتدعوهم للصلاة من أجل المقاومين، ما أثار حفيظة شريحة من اللبنانيين، الذين رأوا أن هذا الرأي لا يمثل الكنيسة.
هذه الحادثة أيضا أثارت المسيحيين المغتربين الذين رأوا بموقف الراهبة موقفا وطنيا ومتقدما، وهذا ما يفسر أيضا التباين داخل الطائفة الواحدة من هذه الحرب.
من هنا نجد هذا الانقسام الحاد بين الطوائف وحتى ضمن الطائفة نفسها، ومما لا شك فيه فإن الجميع لا يريد الحرب في لبنان، لكن البعض يرى أنه كان الأجدى النأي بالنفس عما يحصل في غزة، فيما يرى الطرف الآخر أنّ مساندتها واجب أخلاقي، وهذا الاختلاف بوجهات النظر يجدر به ألاّ ينسينا أن من تهجّر من بيته المدمّر وخسر مصدر رزقه وأبعد عن مقعد دراسته هو لبناني، وكذلك الذي فقد أهله أو أحد أفراد عائلته، وبالتالي ينبغي التعاضد بين جميع اللبنانيين على الرغم من اختلاف وجهات النظر تجاه الحرب، حتى تنقضي ويعود الجنوبيون إلى ديارهم، فلطالما كان اللبنانينون إلى جانب بعضهم البعض في الملمّات والأزمات وهكذا يجب أن يبقوا.