"اللهُ مَيتٌ. Gott ist tot اللهُ يَبقى مَيتًا. وَقَد قَتَلناهُ نَحنُ... ما كانَ أقدَسَ وأقوى ما يَملِكُهُ العالَمُ حَتَّى الآنِ قَد نَزَفَ حَتَّى المَوتِ تَحتَ سَكاكينِنا: مَن سَيَمسَحُ هَذا الدَمَّ عنَّا"؟ بِهَذا تَهَلَّلَ فريدريش نيتشه مُنذُ قَرنٍ وَنِصفٍ، في مُؤَلَّفِهِ Die fröhliche Wissenschaft، العِلمُ المَرِحُ (1882)، مُكَرِّراً إيَّاهُ حَدَّ الثَمالَةِ.
يا لِغَباءِ تِلكَ الفَلسَفَةِ المُتَرامِيَةِ في الغَربِ، وصولاً الى إدراجِ حَقِّ إجهاضِ الجَنينِ البَشَرِيِّ في صُلبِ الدُستورِ كَحُرِّيَةٍ مِنَ الحُرِّياتِ العامَّةِ، وَشُربِ كأسِ هَذا الإنتِصارِ! أبِمَوتِ اللهِ إنتِصارُ الإنسانِ؟ وَبِقَتلِ الإنسانِ لِلإنسانِ لا لِإمرٍ سِوى إشباعِ نَتعَةِ شَهوَةٍ تَغلو مِن أشَواطِ شَرَهٍ؟.
يا لِتِلكَ المَذَلَّةِ، المُزدَوِجَةِ، كَم فيها مِنَ اللاجُرأةِ على إختِراقِ حُجُبِ الأعماقِ في مَنازِعَ النَفسِ البَشَرِيَّةِ المُتلاطِمَةِ! أفي الإغراقِ في أغوارَ مُدلَهِمَّةٍ، مُغالِيَةٍ في الإحتِباطِ، الإنتِصارُ على مَراميَ أكثَرِ الحَقائِقَ الأزَلِيَّةِ كَونِيَّةً؟.
لَقَد كَرَّسَ نيتشه في الغَربِ لا رَخيصَ التَفكيرِ فَحَسبِ، بَل عُبودِيَّةَ اللافِقهِ الرَخيصِ لِجُرأةِ الأزَلِ في الإنسانِ، وَما واضِعُها فيهِ إلَّا اللهُ. في ذَلِكَ لا مُغالاةَ اللإدراكِ بَل إذعانُ التَأبُّدِ في الإندِثارِ والإستِرشادُ بَتَأجُّجِهِ العَنيفِ.
وَلِلحَقِّ. فَلنَعتَرِف: أجَل! ماتَ اللهُ. وَلَكِن، لِماذا يَموتُ اللهُ؟
قَبلَ المَسيحِ، وَحدُهُ لبنانُ إستَدرَجَ اللهَ لِلمَوتِ: ها رَمزُهُ، وَكِنيَتُهُ، طائِرُ الفينيقُ، بألوانِهِ الزاهِيَةِ وَجَمالِهِ الوَحيدِ، وَقَد شَهِدَ آلامَ الخَليقَةِ، مِنَ السَماواتِ يَنحَدِرُ مَرَّةً كُلَّ ألفِ عامٍ، لِيُشارِكَها آلامَها، فَيَرتَقِيَ الى أعلى غُصنِ أرزٍ مُنشِداً تَرانيمَ المُواساةِ وَمَدائِحَ الخَلقِ حَتَّى يَلتَهِبَ بأشِعَّةِ الشَمسِ فَيَفوحَ بِرائِحَةِ عَنبَرٍ وَيَموتَ... وَفي اليَومِ الثالِثِ، فَجراً، يَنبَعِثُ مِن رَمادِهِ جَديداً وَقَد جَدَّدَ الخَليقَةَ. وَها إلَهُهُ الإبنُ، أدونيسُ الفَتِيُّ، المُلتَهِبُ حُبَّاً، يَقتَفي أثَرَهُ الشَرُّ المُتَجَسِّدُ وَحشَ بَراريَ، وَيصرَعُهُ. وَفي اليومِ الثالِثِ يَقومُ!.
الحَقَّ الحَقَّ، تِلكَ أُسطورَتانِ. لَكِن ها المَسيحُ وافى الجِنسَ البَشَرِيَّ: بالحَقيقَةِ تَجَسَّدَ. بالحَقيقَةِ تألَّمَ وَماتَ. وَبالحَقيقَةِ قامَ. تِلكَ الثالوثِيَّةُ المُتَماسِكَةُ فَريدَةٌ، إذ كُلُّ ما سَبَقَها وَتَلاها إمَّا آلِهَةُ أساطيرَ تَستَفرِدُ بِبَني البَشَرِ لِتَصرَعَهُمُ وَتَعتَليَ عُروشاً مِن جُثَثِهِمِ، أو أساطيرُ مُتَألِّهينَ إنتِقامُ هوانِهِمِ في سَفكِ دِماءِ البَشَرِ والتَنَعُّمِ بِها غِنائِمَ إستِعلاءٍ.
طَليعَةُ بَلاغِ الخُلودِ
مِنَ الفينيقِ فأدونيسَ الى المَسيحِ، لِماذا يَموتُ اللهُ؟.
يَموتُ اللهُ مِن ذُروَةِ حُبِّهِ الإنسانَ، إذ "لَيسَ لِأحَدٍ حُبٌّ أعظَمُ مِن أن يَبذُلَ نَفسَهُ في سَبيلِ أحِبَّائِهِ". (يوحَنَّا 15/13).
يَموتُ اللهُ لِكَي لا يَبقى مُتَألِّمٌ لأقاصِيَ الأرضِ، مِن ظُلمِ خَطيئَةٍ أو مَقهورِيَّةِ سُلطَةٍ، وَحيداً، فَيُشارِكُهُ وِحشَةَ آلامِهِ.
يَموتُ اللهُ لِكي لا تَكونَ الكَلِمَةُ الأخيرَةُ ها هُنا لِطُغيانِ الشُرورِ.
مِنَ الفينيقِ فأدونيسَ الى المَسيحِ، اللهُ طَليعَةُ بَلاغِ خُلودِ الإنسانِ، بِمَوتِهِ... وَقِيَامَتِهِ. ألَيسَ المَسيحُ الصارِخُ عَشِيَّةَ آلامِهِ وَقُبَيلَ مُحاكَمَتِهِ، بالآرامِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ: "أدونايَ"؟ ها المَوتُ إستِحقاقُ الحَياةِ، والحَيَاةُ إٍستِحقاقُ المَوتِ. في تِلكَ الطَليعَةِ: الحُبُّ-الرَحمَةُ إنتَصَرَ على الدَينونَةِ. بَل غَدا الدَينونَةَ. القَضاءَ الأخيرَ. "لِلمَوتِ لَن يَبقى وجودٌ...، لِأنَّ العالَمَ القَديمَ زالَ... هاءَنَذا أجعَلُ كُلَّ شَيءٍ خَلقاً جَديداً" (رؤيا 21/4-5).
وَسِرُّ الأيَّامِ الثالوثِيَّةِ؟ لِتَوكيدِ قِيَامَةِ الإنسانِ الثالوثِيَّةِ: بالجَسَدِ، بالنَفسِ، بالروحِ... في مَجدِ الأُلوهَةِ.
يا لَهَولِ فَراغِ حَتمِيَّةِ نيتشه وَغَربِهِ الناهِبِ حَقيقَةِ اللهِ والإنسانِ مَعاً!.
يا لَعَظَمَةِ لبنانَ بِمَسيحانِيَّتِهِ المالِئَةِ خُلودَ الإنسانِ بِخُلودِ اللهِ!.