لا نزال في لبنان نتعاطى مع الامور من منظار طائفي، شاء من شاء وابى من ابى، فالواقع لا يمكن تكذيبه مهما قيل ويقال عن الابتعاد عن الطائفية والانصهار في فكرة قيام لبنان من دون طائفية. الدلائل على هذا الامر لا تعد ولا تحصى، ومنها مثلاً الفشل حتى اليوم في اعتماد اللاطائفية في المراكز اللبنانية، والفشل في اجراء تعيينات (حتى في ظل انتظام العمل المؤسساتي) مع مراعاة الكفاءة فقط، والخوف من ابقاء اشخاص في مناصبهم على الرغم من قدراتهم المشهود لها خوفاً من ردة فعل هذه الطائفة او تلك.
وفي ظل هذا الوضع، لا بد من التوقف عند واقع مرير يعاني منه المسيحيون تحديداً الذين يتآكلون ويتقهقرون في لبنان، برضاهم، ومن دون القدرة على القيام بأي خطوة للحد من هذا التدهور الخطير حتى في الشكل. وكان من المتعارف عليه انه عند احتدام الخلاف السياسي بين اطراف الطائفة الواحدة، تتدخل المرجعية الدينية لرأب الصدع واعادة مسار الامور الى طبيعتها، لما تمتلكه من قيمة معنوية. ولكن، حتى هذا الحل لم ينجح، وها هي بكركي تقف عاجزة عن الخروج بموقف يضع المسيحيين في خانة واحدة، ولو في الشكل، وهذا ما يجعل الامور اكثر تعقيداً.
وفي معرض التعليق على هذا الواقع، يرى البعض ان العقدة هي في المصالح الشخصية للمسؤولين المسيحيين، وهي عادة موروثة لم يستطع احد ايقافها او تعديلها، وترتبط بما بات يسمى بـ"صراع البقاء" لطائفة كانت الاكبر في لبنان وتحوّلت مع الوقت وبفعل تراكم الاخطاء، الى شبه اقلية لا يمكنها فرض رأيها بسبب تشرذمها، فهي لا تملك قراراً موحداً يمكنها الدفاع عنه، ولا حتى عندما يتعلق الامر بوجودها وحضورها في المؤسسات والحياة العامة. في المقابل، يعتبر آخرون ان المسيحيين كانوا بحاجة الى بطريرك آخر اكثر حزماً في التعاطي واكثر "مونة" على المسؤولين السياسيين المسيحيين، بحيث يحرجهم امام انفسهم وامام جمهورهم الذي لا يزال يحتفظ بمكانة خاصة للمقام الروحي الاعلى عند المسيحيين في لبنان. وبغض النظر عن السبب، فإن النتيجة واحدة وهي ان المسيحيين يتراجعون ويكاد صوتهم لا يُسمع، وحضورهم يتضاءل شيئاً فشيئاً، وهذا كلام واقعي لا يمكن نكرانه مهما علت الاصوات العاطفية والتي تحاول عبثاً شدّ العصب والايحاء بأنه لا يمكن تخطي القرار المسيحي.
لربما كان هذا الكلام العاطفي مجدياً لو كان هناك بالفعل قرار مسيحي موحّد، ولكن في ظل القرارات المسيحية التي لم تنجح في بكركي في جمع اصحابها من الاطراف السياسية وجعلهم يتفقون على هدف واحد هو انقاذ المسيحيين والوطن بطبيعة الحال، فلمن سيتم توجيه الكلام عن قرار مسيحي ضائع، وعن اناس صمّوا آذانهم عن مثل هذا القرار؟ اليوم باتت الامور اكثر سخونة، فحتى في ظل غياب رئيس الجمهورية وعدم الاتفاق عليه، ترى زعماء الاحزاب والتيارات السياسية المسيحية يختلفون حول أتفه الامور، فهل هناك من يمكنه ان يجب على سؤال ما اذا كانت العقدة الرئاسية مسيحيّة؟ فإذا كان الاتفاق بين اكبر طرفين سياسيين مسيحيين اثنين اي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر على شخصية واحدة معلنة (علماً ان كل المؤشرات تشدد على ان المرشح جهاد ازعور ليس المطلب الحقيقي لاي منهما)، فما الذي منع انتخابه وهل الثنائي او الطوائف الاخرى هي التي عرقلت ذلك؟ في الواقع قد يبدو ذلك، ولكن الحقيقة هي ان المسيحيين انفسهم عرقلوا انتخاب الرئيس، لانهم لم يتفقوا على شخصية واحدة، ولو حصل العكس لكان تم تسويقه بنجاح لدى الدول الفاعلة وبعد سنتين من الفراغ لكانت هذه الدول وجدت التوليفة المناسبة للقبول به، وطرد الفراغ من قصر بعبدا.
عشيّة عيد القيامة المجيدة، يبدو ان الاطراف المسيحيّة في لبنان لا ترغب في ان تعيش مفاهيم هذا العيد المجيد، واختارت الغرق اكثر واكثر في فلسفة الموت وانتظار قيامة وهمية تريدها وفق قياسها ومصالحها الشخصية.