على الرغم من أنّه يكاد يمرّ مرور الكرام، في كثافة المجازر الإسرائيلية المروّعة في غزة، والتي كان موظفون دوليّون من ضحاياها في الساعات الماضية، والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على مناطق لبنانية عدّة، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق شكّل التصعيد "الأخطر" على الإطلاق منذ السابع من تشرين الأول الماضي، بل منذ اغتيال قائد فيلق القدس سابقًا قاسم سليماني في العام 2020.
ولعلّ أهمية الحدث الأمني الذي يصحّ وصفه بـ"الخطير"، تمتدّ من الشكل، مع استهداف مبنى تابع للقنصلية الإيرانية، مع ما يعنيه ذلك في أعراف الدول، إلى المضمون، وهو ما يتجلى في قائمة من تمّ اغتيالهم، وجلّهم من المسؤولين العسكريين، وبينهم كبار القادة في فليق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وعلى رأسهم القيادي البارز محمد رضا زاهدي الذي صُنّف قائدًا لفيلق القدس في سوريا ولبنان، والذي وصفه "حزب الله" بـ"المضحّي النموذجي".
وفي وقت سارعت إسرائيل على جري عادتها بعد عمليات من هذا النوع، إلى "الاستنفار والتأهّب"، خصوصًا على مستوى سفاراتها حول العالم، اتّجهت الأنظار إلى ردود الفعل الإيرانية التي تقاطعت على شجب الجريمة وإدانة العدوان الإسرائيلي، وتفاوتت بين الخيارات الدبلوماسية، على غرار اللجوء إلى مجلس الأمن، وتلك العسكرية، خصوصًا مع توعّد كبار القادة الإيرانيين بـ"الثأر والانتقام"، مؤكدين أنّ الرد سيكون "قاسيًا".
إزاء ذلك، طُرِحت العديد من علامات الاستفهام حول الردّ الإيراني المتوقّع، بدءًا من توقيته المحتمل، وما إذا كان سيُرجَأ إلى "الزمان والمكان المناسبين"، وهي العبارة التي أضحت "نافرة" لكثيرين، وصولاً إلى طبيعته، ولا سيما لجهة ما إذا كان سيلتزم بـ"قواعد الاشتباك" الأقرب إلى "ضوابط" تلتزم بها إيران منذ عملية "طوفان الأقصى"، فهل "تتحرّر" منها هذه المرّة من باب "ردّ الاعتبار"، لتصبح بالتالي "الحرب الموسّعة" الخيار الأقرب والأكثر واقعيّة؟!.
بالعودة إلى الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق، يقول العارفون إنّه ينطوي على "خطورة" تكاد تكون غير مسبوقة، للعديد من الأسباب والاعتبارات، ولا سيما لجهة "رمزيّة" الأهداف التي ضربها، من الموقع إلى الأشخاص، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ القول إنّ هذا الهجوم شكّل ضربًا لقواعد الاشتباك قد يكون مُبالغًا به، لأنّ إسرائيل تتجاهل هذه القواعد منذ فترة، وكأنّها تستدرج الحرب الشاملة، أو ربما "تطمئنّ" لوجود قرار بعدم الانجرار إليها.
وقد يكون كافيًا العودة إلى طبيعة الاعتداءات الإسرائيلية، التي أضحت شبه يوميّة، في الأسابيع القليلة الماضية، على كلّ من سوريا ولبنان، والتي تشكّل مؤشّرًا على وجود قرار إسرائيلي بالتصعيد، من دون أيّ حساب للتبعات أو النتائج، علمًا أنّ الردود عليها لا ترقى برأي كثيرين لحجم الأفعال، بل إنّ هناك من يقول إنّها تندرج في خانة "رفع العتب" ليس إلا، علمًا أنّ الجبهات المفتوحة إيرانيًا تتقاطع على مبدأ "الإسناد لغزة"، وليس أكثر من ذلك.
بهذا المعنى، يتحدّث العارفون عن عوامل دفعت إسرائيل إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة التي قد تبدو غير محسوبة، باستهداف القنصلية الإيرانية، وقتل كبار قادة فيلق القدس، ومنها اطمئنانها إلى أنّ إيران "لا تريد الحرب"، ولو أنّ المسؤولين الإسرائيليين حاولوا "احتواء" الأمر إلى حدّ ما، عبر الإصرار على أنّ المبنى المستهدف ليس مبنى السفارة، بل هو عبارة عن مبنى أمني ملحق بها، بدليل أنّ القتلى كلّهم من العسكريين، وليس بينهم مدنيّ واحد.
لكن، أبعد من "دوافع" الهجوم، الذي يرى كثيرون أنّ إسرائيل ما كانت لتجرؤ على تنفيذه في الظروف العاديّة، تُطرَح علامات استفهام حول "شكل" الردّ الإيراني، والتداعيات التي يمكن أن ينطوي عليها، علمًا أنّ العارفين يتحدّثون عن موقف "صعب" لطهران، التي لا تستطيع السكوت على مثل هذا الهجوم، بشعار "الصبر الاستراتيجي" الذي تحوّل إلى "نقمة" في مكان ما، ولكنها في الوقت نفسه، ووفق كل المؤشرات، لا ترغب بالذهاب إلى حربٍ مفتوحة.
الأكيد، وفق العارفين، أنّ إيران لا تستطيع "تمرير" ما جرى من دون ردّ، خصوصًا أنّ الانطباع القائل بأنّ تكتيك "الردود المضبوطة" هو الذي يجعل الإسرائيلي يتمادى في اعتداءاته، من دون أيّ ضوابط في المقابل، لكنّ ذلك لا يعني أنّ الردّ الإيراني سيكون فعلاً "بلا ضوابط"، ولا سيما أنّ كل المعطيات تؤكد أنّ حسابات طهران لم تتغيّر بعد، وأنّ "صبرها الاستراتيجي" لم ينفد بعد، رغم صحّة المقولة الشائعة بأنّ "للصبر حدودًا".
بهذا المعنى، يتحدّث العارفون عن عدّة احتمالات للردّ الإيراني ليس من بينها عملية "موازية" بالخطورة للهجوم على القنصلية في دمشق، إلا أنّها قد تكون "متعدّدة الجبهات"، بحيث يمكن أن تشمل تصعيدًا من جانب "حزب الله" في لبنان، وهو الذي سارع إلى التنديد بالجريمة والتأكيد أنها "لن تمرّ دون أن ينال العدو العقاب والانتقام"، كما قد تشمل "تحريكًا" للجبهات الأخرى، خصوصًا في سوريا والعراق، عبر ضرب المصالح الإسرائيلية والأميركية.
وفي إطار "بنك الأهداف"، ثمّة من يضع احتمال استهداف المصالح الإسرائيلية حول العالم بشكل مباشر، سواء في المناطق "الساخنة"، كما حصل مثلاً سابقًا في أربيل، حين تمّ استهداف ما وُصِف إيرانيًا بـ"مقرّ للموساد"، أو في غيرها من المناطق التي يسهل الوصول إليها حول العالم، خصوصًا حيث توجد سفارات إسرائيلية، وذلك من باب الردّ بالمثل، ولو بالشكل، ووفق مبدأ "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم".
يبقى الثابت، حتى الآن على الأقلّ، وحتى إثبات العكس، أنّ الردّ الإيراني مهما كبر حجمه، لن يكون من النوع الذي يفضي إلى "حرب"، ولا سيما أنّ احتمالات الحرب الموسّعة التي تلوح في الأفق منذ السابع من تشرين الأول باتت في أدنى مستوياتها، ولو أنّ ذلك قد يقود إلى سؤال كبير، عن "الهيبة المفقودة" منذ اغتيال قاسم سليماني، والذي لم ترقَ كلّ الردود عليه للمستوى المطلوب، أو بالحدّ الأدنى، المتوقّع!.