ما إن ودَّعنا أحد السجود للصليب المقدَّس حتَّى بدأنا نصعد شيئًا فشيئًا مع الربِّ في مسيرة خلاصه لنا.
كلمة صعود جوهريَّة في حياة الإنسان لأنَّ الله خلقنا لنصعد إليه ومعه وبه. هذا ما يجب أن تكون حركتنا عليه.
كلمة صعود هي ارتقاء وارتفاع ولكنَّها لا تتحقَّق إلَّا بالصليب أوَّلًا، أي بخلع كلِّ ما يجعلنا ننخفض إلى التراب ورميه تحت أقدام يسوع. هنا يبدأ الجهاد الحسن لاسترجاع الصورة الأولى النقيَّة الَّتي خلقنا الله عليها، واكتساب الفضائل بالنعمة الإلهيَّة المنحدرة نحونا من الله إن أحسنَّا الجهاد.
هذا تمامًا ما يخبرنا إيَّاه القدِّيس يوحنَّا السلَّميُّ (ق 7 م) بمدوّنته الرائعة «السُلَّم إلى الله»، والَّذي تخصِّص له الكنيسة الأحد الرابع من الصوم الأربعينيِّ المقدَّس.
كتابه الَّذي لا يشبع منه المؤمن كُتِبَت له أيقونات عديدة، أقدمها أيقونة فائقة الجمال تعود إلى القرن الثاني عشر الميلاديِّ، وهي محفوظة في دير القدِّيسة كاترينا في سيناء، وذلك ليكتمل اللقاء. فالقدِّيس نسك في جبل سيناء أيضًا الَّذي اشتهر بمناسكه العامرة بالرهبان.
تنبثق الأيقونة من كتابه وتلخِّصه بتصويرٍ جميلٍ ومرعب في الوقت نفسه، وتحثُّنا نحن المؤمنين على أن نقرأ ما خطَّه السُلَّميُّ، وأن نطلب مؤازرة الروح القدس قاصدين أن نكون مِن عداد الَّذين تسلَّقوا سُلَّم الفضائل بدرجاته الثلاثين بأكمله، ونصل إلى الملكوت السماويِّ حيث يستقبلنا الربُّ يسوع المسيح مع محفل القدِّيسين، ولا نكون من الَّذين سقطوا وتشربكوا بفخاخ إبليس متمسِّكين بانحرافاتنا متعلِّلين بِعلل الخطايا.
كاتب الأيقونة جمع بين رؤيا يعقوب (تكوين 19:28) والخبرات الروحيَّة الَّتي عاشها القدِّيس يوحنَّا الَّتي صوَّرها بشكل سُلَّم مستوحى أيضًا من الرؤيا نفسها، وهو مؤلَّف من ثلاثين درجة على عمر المسيح، ودوَّنها قدِّيسنا بعد أكثر من أربعين سنة بطلبٍ من رئيس دير رايثو، وكان يدعى أيضًا يوحنَّا. فقد رغب الأخير في أن تكون حياة السُلَّميِّ منفعة للرهبان، إذ رأى في مسيرة القدِّيس يوحنَّا ناموسًا إلهيًّا نابعًا من إنسان تنقَّى وتطهَّر واستنار وتألَّه، فبات خبرة نسكيّة لغيره. وفور استلامه الكتاب دعاه «الألواح» تيمُّنًا بألواح الوصايا الإلهيَّة الَّتي تسلَّمها موسى النبيُّ من الله. ولكن مع الوقت غلب اسم «السُلَّم إلى الله» على الكتاب.
نعم، هذا هو اللاهوت، فهو يعاش ويعاش ومن ثمَّ يعاش.
بالعودة إلى الأيقونة، ففور وقوع نظرنا عليها نشعر كأنَّنا دخلنا أتونًا إلهيًّا من النور الإلهيِّ غير المخلوق، وذلك لخلفيَّة الأيقونة الذهبيَّة، فهي تشعُّ نورًا صافيًا لا غشَّ فيه. والنور يكشف كلَّ شيء، وهذا تحديدًا ما نشاهده في الأيقونة، كلُّ شيء فيها واضح ومكشوف، والأرهب فيها سواد الشياطين الَّذين يُسقِطون الرهبان عن السُلَّم أمام بهاء إشراق اللون الذهبيِّ النوراني. تمامًا إنَّهما عالمان لا يلتقيان أبدًا.
وقد قصد كاتب الأيقونة بذلك أن يدخلنا إلى أتون الصلاة الملتهب بعشق الله الَّذي كان يعيش فيه قدِّيسنا. فبالرغم من صغر حجم الأيقونة، أي 40،1 سم طولًا و29،5 سم عرضًا، فهي تبسط أمامنا مشهدًا أخرويًّا في اليوم الأخير، مخاطبةً إيَّانا بآية قالها الربُّ، ودوَّنها القدِّيس يوحنَّا الإنجيليُّ في سفر الرؤيا: «أُشيرُ عليك أن تشتري منِّي ذهبًا مصفًّى بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عُرْيَتِكَ. وكحِّلْ عينيكَ بكُحْلٍ لكي تُبصر» (يوحنَّا 3: 18).
أتى كلام الربِّ موبِّخًا ليس فقط ملاك الكنيسة الَّتي في سَارْدِسَ فحسب، أي راعيها، بل كلَّ واحد منَّا مهما كانت مسؤوليَّاته ودوره. وكان كلام الربِّ صارمًا إذ سبق الآية توبيخ قاطع مفاده: «لأنَّك تقول: إنِّي أنا غنيٌّ وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيء، ولستَ تعلم أنَّك أنت الشقيُّ والبَئِسُ والفقير والأعمى والعريان».
هنا الجوهر كلُّه، فالإنسان الَّذي لا يتعرَّى من أنانيَّته ولا يريد أن يستغني بالله بل بنفسه، هو شقيٌّ بخطاياه، وبائس بمجده الباطل والزائل، وفقير من الفضائل الإلهيَّة، وفاقد البصيرة، وتائه وعريان من مجد الله.
القدِّيس يوحنَّا السلَّميُّ يدعونا، درجة درجة لنكتشف الجمال الحقيقيَّ والسلام الحقيقيَّ والفرح الحقيقيَّ والتعزية الحقيقيَّة والحياة الحقيقيَّة الأبديَّة الَّتي نبدأها من الآن. كتابه ليس حصرًا للرهبان بل لكلِّ إنسان. كلُّنا مرضى بأهوائنا الدفينة، وعلينا الاختيار مع من نريد أن نكون، أمع الَّذين يقبعون مسجونين في أسفل الأيقونة أم مع الَّذين غصبوا أنفسهم لينالوا الملكوت.
خلاصة، أيقونة السُلَّم إلى الله أيقونة تعليميَّة جدًّا وبامتياز، ولفهم معانيها أكثر وجب قراءة الكتاب والتمعُّن بكلِّ كلمة فيه. إنَّه كتاب لا ينتهي، وكلُّ درجة فيه عبور من عالم الظلمة إلى عالم النور، ومن عالم الموت إلى عالم الحياة. وبقدر ما يكتشف الإنسان نفسه يعي كلمات الكتاب.
نهاية، أوَّل شخص على رأس السُلَّم هو القدِّيس يوحنَّا السُلَّميُّ، وخلفه رئيس الأساقفة في سيناء وكان يدعى أنطونيوس. نرى في أيقونات أخرى القدِّيس يوحنَّا يحمل لافتة مكتوبًا عليها: «اصعدوا اصعدوا أيُّها المتسلِّقون بغيرة في قلوبكم أيُّها الإخوة...».
إلى الربِّ نطلب.