بَعضُهُمُ يَستَسيغُ التاريخَ سَردِيَّاتٍ فيها يَقبَعُ. قِلَّةٌ تَقرأُهُ تَجَدُّداً لِيَقَظَةٍ، عَلى وَقعِ مواجَهاتٍ خَرَجَت عَنِ السَيطَرَةِ وَخُطوطِ تَماسٍ لا تُعقَبُ مآلاتُها.
وَسطَ هَذا اللاتآلُفُ بِتَقاطُعِ العَرَضِيِّ والواقِعِ، يَقِفُ لبنانُ وَحيداً. بَل وَحدَهُ المُتَجانِسُ الأَوفَقُ لِلإِهتِداءِ. وَحدَهُ الحَقيقَةُ المُحَرِّرَةُ... المُتَوالِدَةُ مِن تَداخُلِ ضَوءَينِ: اللهُ. الإنسانُ. الأَوَّلُ لا يُفقَهُ إلَّا مِنَ الثانيَ، والثانِيُ لا بِهِ يُكتفى إلَّا بالثانِيَ. سُكونُهُما، حَرَكِيَّتُهُما. بالسَلامِ بَينَ الحَقِّ والواقِعاتِ.
لِلقَضاءِ عَلى تِلكَ الدينامَوِيَّةُ الأُمَّوِيَّةُ، يُستَحضَرُ لبنانُ الى جَبرِيَّاتِ مَن إبتِغاؤهُ تَأَلُّهٌ دَيمومِيٌّ-دَمَوِيٌّ. والمَقصَدُ لَيسَ بِحَديثٍ. المَقدونِيُّ المُؤَلِّهُ ذاتَهَ إبتَكَرَهُ. وَعَلى هُداهُ، سارَ مُلَيكِيُّو فارِسَ وَبابِلَ وَمِصرَ وأذرِعَتَهُمُ وَمُقَلِّدوهُمُ... الى أن أختَزَلَت روما المَسكونَةَ، شُعوباً وَأمصاراً، عُرمَةَ جُزئِيَّاتٍ تَمَلَّكَتها. وَمِن هُنَيهاتِها إعتَكَسَت إلَهاً-أحَداً-أوحَداً: مارسُ. كَرَّسَتهُ إلَهَ الحَربِ. الإبادَةِ. الإستِعبادِ. بَعدَما إستَولَدَت ذِئبَةً-مُؤَسِّسَةً أرضَعَت بَانيها، وَمِن عَميمِيَّتِها إستَأذَبَت نَمَطاً وَإمتِداداً.
حينَ إبتَكَرَ لبنانُ السَلامَ دَعوَةً إلَهِيَّةً، وَالإنسانَ غايَةً، والحَياة نُهىً، أقَرَّت روما العَداوَةَ حِصناً واللاعَدالَةَ تَعليلاً. وَحينَ صَرَخَ بِها اولبيانوسُ الصورِيُّ: الإنسانَ، الإنسانَ! أغتَالَتهُ وَرَفَعَتهُ نُصُباً إحتِفاظِيَّاً.
وإذ سَبَقها في حُكمِ العالَمِ بِتَفاعُلِ الحَرفِ وَقُوَّةِ الكَلِمَةِ وَشَجاعَةِ التَلاقيَ، أعلَت صِناعَةَ أسلِحَةِ القَتلِ الشامِلِ والإتِّجارَ بِها مُحَرِّكَ الإقتِصادِ الأسمى. وإذ غَلَبَتها قَرطاجَةُ، إبنَةُ صورَ، دَمَّرَتها لِآخِرِ حَجَرٍ، كَي لا يَبقى الحَقُّ سَديدَ تَواصُلِ الحَضاراتِ وإنتِظامِ الحَواضِرَ.
روما، روما، الوَيلُ لَكِ يا مَن إستَلهَمتِ ظُلُماتِكِ أنواراً، وَسَمَوتِ بالمَوتِ يَراعاً رَحيماً، سَطَّرتِهِ في دَساتِيرِكِ جَبرِيَّةَ إعتِلاءٍ مِن حُرِّياتٍ عامَّةٍ. وَبَينَ المُسَبِّبِ والمُسَبَّبِ، رَكَنتِ لِذَكاءٍ مُصطَنَعيٍّ مُستَقِّلٍ عَن مَشيئَةِ الإرادَةِ، وَفي ضَلالِهِ إستَدَمتِ في حَتمَوِيَّةِ الجُحودِ!.
روما-الغَربُ، الوَيلُ لَكِ يا مَن سَقَطتِ فَريسَةَ إغتِرابِكِ عَن ذاتِ الإنسانِ، فَفَصَلتِ العَقلَ عَن الإيمانِ لِلقَضاءِ عَلى أحَدِهِما بالآخَرِ، وَفَصَلتِ بَينَ ال"أنا" وَ"الآخَرِ" لِإستِباحَةِ الأوَّلِ لِلثانِيَ. وَما أن صَرَخَ بِكِ مُراهِقٌ-شاعِرٌ مِن عِندِكِ: "أنايَ هوَ آخَرُ"، إستَعدَيتِ أناكِ، وَما حَماكِ مارسُكِ مِن غَبائِكِ فَصارَ البَرابِرَةُ داخِلَ حُصونِكِ، وَعَلَيكِ سَلَّطِهِمِ، كالغانِيَةِ ألغِوايَتُها الزِنى وَقَد تَعتَعَها فُجورُها حَدَّ مَحقِ ذاتِيَّتِها!.
أفي الشَرقِ تَمَوضُعُ بَرهَنَةٍ أجلى؟ بَل وَحدانِيَّةٌ تَسخيرِيَّةٌ، جَبرِيَّتُها بَرهَنَةُ ذاتِها: تَمَنطُقٌ بالدينِ فَعلَ إستِنجادٍ بِمُبيدٍ، وَصَرامَةٍ بَدَمارِ الحَضارَةِ.
الدَينونَةُ العُظمى
في إحتِفاظِيَّاتِ الجَورِ هَذِهِ، رَدى مَحَجَّةِ الإرتِهانِ لِلاإنسانِيَّةِ... وَلِلاأُلوهَة.
ها، قَد أتَت دَينونَةُ هَذا العالَمِ الخاضِعِ لِتَعميمِ فَرضِهِ... عَلى يَدِهِ.
خَطِيئَةُ الغَربِ-روما المُمِيتَةُ أنَّهُ أنَكَرَ ذاتَهُ ثَلاثينَ مَرَّةً ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَبلَ صِياحِ الأجيالِ وَأثنَاء[NK1] َهُ وَبَعدَهُ، وَآمَنَ أنَّ إغواءَ مارسَ جَبروتُهُ لِحُكمِ العالَمِ. هوَ كُلَّما غَرِقَ في تَخاذُلِ اللامُبالاةِ إزدانَ مَآثِمَ. لَو بالعَقلِ صُنوِ الإيمانِ حَكَمَ، لَكانَت رِيادِتُهُ ذاتَهُ.
وَخَطيئَةُ الشَرقِ-المُتَرَوِّمِ المُمِيتَةُ إرتِضَاؤهُ إزدِواجِيَّةِ التَرفيهِ ثَمالَةَ-مُخَدِّرٍ وَمُجابَهَةُ مارسَ-الغَربِ بِمارسَ لاوَعيِهِ، مَن إغواؤُهُ بأشبَاهِ رِماحٍ وَمُسَيَّراتٍ وَثَرَواتٍ، مُرتَضيها قَدَراً. هوَ كُلَّما غارَ في إستِكبارِ التَطَرُّفِ تَبَهرَجَ إجراماً. لَو بالإيمانِ صُنوِ العَقلِ حَكَمَ، لَكانَت رِيَادَتُهُ ذاتَهُ.
هوَذا لبنانُ-الأبَدُ. مُذ كانَ، كَبيراً كانَ. مِنَ الأُلوهَةِ مُنطَلَقُهُ وإلَيها مَدارِكُ تَأنسُنِهِ. بِهِ خَلاصُ الشَرقِ والغَربِ. الإنسِحابُ مِنهُ هَلاكُهُما... مَعاً.
يَبقى أن يَكونَ مَسيحَ رِسَالَتِهِ لا رَسولَها وَمُرسِلُها، قَدرَ الإيمانِ بِتَبادُعِيَّاتِ عَقلِها. عَلى هَذا تَكونُ دَينونَتُهُ العُظمى... أو لا يَكونُ!.
*(مُهداة الى الوَزيرِ غسَّان سلامه لِمُناسَبَةِ صُدورِ كِتابِهِ).