فتحَت الأشهر الستة الماضية بوابة "الشرق الأوسط الجديد"، هذا الذي طالما سمعنا عنه منذ حرب العراق عام 2003. تعثرت المفاوضات مرة جديدة بين قطر واسرائيل لإطلاق سراح الأسرى، والأمم المتحدة لم تنجح حتى الساعة في فرض قراراتها على "المدلَّلة" إسرائيل. وما يزال قطار الحرب مستمرّاً في جولته التي بدأت في غزة، مروراً برَفَح والضفّة، وصولاً، وليس آخِراً، الى لبنان.
أصبح الحلم العربي علبة تسقط من منطاد يواجه بها المجاعة الكبرى، ولم ينجح 444 مليون عربي في شق طريق آمن لإطعام الأطفال الجياع في غزة؛ حقيقة سيرويها التاريخ في القرون الآتية. ليست القصة قصة أرض "فلسطيني"، إنما قلوب "مليانة" (ملأَى) جوعاً الى الغاز المخزون تحت الأرض، والذي يُقدّر بتريليون قدم مكعّب منه. يعرف العرب تماماً هذا الهجوم الميداني على غزة، من خلال الميناء الجديد الذي سيؤمّن للولايات المتحدة، اولاً، موطئ قدم في شرقٍ أوسط مملوءٍ بالثروات... والمفاجآت!.
اقفل المسرح الدبلوماسي الستارة على ممثلين بارعين ومخرجٍ أميركيٍّ "يذهب مع أمّ العروس ويأتي مع أمّ العريس"، ويعلن من البيت الأبيض قرارات لا تشبه ما يحدث على الأرض. ربما أصبحنا على قاب قوسٍ من الخارطة الموعودة، "الشرق الأوسط الجديد"، بعد انتهاء صلاحية مفاوضات "سايكس-بيكو"[1] التي رعتها فرنسا وبريطانيا، بمباركة روسيا وإيطاليا، خلال الحرب العالمية الأولى، عام 1916، وأصبحت اليوم مع منجزيها خارج شرق المتوسط بقرار أميركي. ورأينا تماماً كيف وضّبت فرنسا عدّتها النفطية من لبنان، ورحلت الى قبرص منذ أسبوعين، لأن المارد الأميركي يتحضّر للمجيء مع خارطته الجديدة.
ونجحَ اليهود في إسرائيل، في جرّ الولايات المتحدة الى الحرب، فقدّموا لها غاز "غزة" على طبق من دمار ودماء، تماماً كما فعلها أجدادهم في الحرب العالمية الثانية، وبطلب من بريطانيا اقتادوها الى الحرب عام 1941، وكانت الهدية: فلسطين.
الاثنان متفقان على القضاء على كل فكر او حركة عربيّة في فلسطين. اسرائيل تريد بلاداً أبدية لها، وأميركا تريد الغاز والنفط تحت ستار الاستعمار الإقتصادي. على الأرض، "سبق السيف العذل". انتهى زمن الحوار، وصار الكلام يُروى بالقذائف والصواريخ، لغة الدبلوماسيّة الجديدة. وأصبح حلّ الدولتين ملفاً جديداً يُضاف الى وثائق الأمم المتحدة. فأضحى العالم العربي امام معادلات إقليمية واصطفافات جديدة بدأت تظهر ملامحها في منطقة الصراع الدامي.
في واشنطن، يتسابق المهندسون الماهرون على رسم الخارطة الجديدة، خارطة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وخارطة الرئيس الأميركي المقبل المحتمل دونالد ترامب، الذي يتهيأ لدخول الأبيض في بداية عام 2025. الكونغرس بأغلبيته مع طلبات إسرائيل؛ فإسرائيل، في الخرائط الجديدة، ستبقى حيث هي حتى إشعار آخر في حال فاز العرب في "الحرب الكبرى المقبلة"، التي أكدتها واشنطن لـ"النشرة"، لأن الواقع على الأرض لا يبشّر بعودة المفاوضات وتدخّل مجلس الأمن الذي أصبح مركز أرصاد سياسية للتبليغ عن العواصف ولا قدرة له مواجهة اية واحدة منها.
الحرب آتية؛ حرب شرسة، كما وصفها المقرّبون من الإدارة الأميركية، التي تتحضّر لتنفيذ خارطة إدارة الحزب الديمقراطي، وتشمل حضور الدول الخمس الدائمي العضوية الى مائدة المفاوضات في مؤتمر تقسيم الشرق الأوسط الجديد. تتسابق إدارة بايدن مع الوقت لتنفيذ خارطتها، قبل الإنتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل، وقبل وصول ترامب إذا كُتب له الفوز، لأن خارطة الشرق الأوسط "الترامبيّة" تستبعد دول الناتو وتجمع معها روسيا والصين فقط. وأكدت المصادر في واشنطن ان التوصل الى عقد مؤتمر لطرح وتقسيم الشرق الأوسط لن يحصل قبل اندلاع حرب كبيرة في دائرة الصراع الحاليّة، دون تحديد مكان هذا المؤتمر الذي يشبه مؤتمر "سان ريمو"[2] في القرن المنصرم.
وتابعت المصادر أنّ رياح التغيير الآتية لن تتوقف عند فلسطين ولبنان، بل ستشمل سوريا "الصامتة" منذ بداية الأزمة، لأنها موعودة بتقسيم يضمن لها السيطرة العلويّة... الى ما قدّر الله. وإنّ الدول الخليجية لن تسلم هي الأخرى -بحسب المصادر- من صراع من نوع أخر، طائفي، يُرسم لها، هدفُه تغييرُ النظام العالمي القائم على تعادل القوى السياسية والاقتصادية في العالم.
ما نشهده على الساحة اللبنانية من استعطاء دولي من الأمم المتحدة كي تنفذ قراراتها، هي التي لم تكن يوماً فاعلة إلا في توزيع اللقاحات والخيَم للنازحين. اللبنانيون التوّاقون الى تنفيذ القرار 1701 صورة تشير الى عملية انفصام تامّ عمّا يحدث في كواليس القرارات الدولية؛ فهم منشغلون بهندام الرئيس المقبل، بعدما تستوي طبخة الصراع في فلسطين، وانتظار من سيكون الرابح، إيران أم أميركا، غيرَ منتبهين حتى الساعة إلى أنّ الاتّفاق بين الكبار أمر ثابت، وأنّ روسيا وأميركا مختلفتان في بعض المسائل، ومتّفقتان على أكثرها، وآخرها تقسيم الشرق العربي بمباركة اللورد الأميركي والقيصر الروسي.
لم يعد سلاح "حزب الله" هو الهدف، إنما حضوره وحضور "حماس" على طاولة المفاوضات واقع يجب ان ينتهي قبل الجلوس حول الطاولة. فالقضاء عليهما والسيطرة على الغاز في لبنان وغزة قرارٌ اتخذته واشنطن منذ فترة طويلة، وطلب تسليم السلاح نراه يُواجَه بعناد من الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصرالله. اسرائيل قررت الحرب، والثاني ينتظرها، ولبنان نراه يتقاتل بين أحزابه على رئيس وزعامات... هذا إذا كُتبَ للبلد أن يبقى بصيغة جديدة فيها رئيس ماروني.
مفاوضات سايكس-بيكو قادت ديارنا العربية الى مؤتمر سان ريمو عام 1920، وشارك من لبنان يومها البطريرك الماروني الياس الحويك. فمن سيشارك في المفاوضات المرتقبة إذا دعت الولاياتُ المتحدة لبنانَ إليها؟ الواقع على الأرض وفي كواليس واشنطن ان حزب الله هو مفاوض مهم، كونه الأقوى على الأرض، ولا سيما أنّ المسيحيين ما زالوا منقسمين وغارقين في سياسة النكايات، في سبيل كرسي رئاسي، ربما لم يعد صالحاً في المستقبل، بسبب الخارطة الجديدة للبنان -بحسب واشنطن- وهي الفدرالية التي تقسّمه الى أقضية ومحافظات طائفية-يعني "محلّك يا واقف". فالواقع الديموغرافي لن يتغيّر إلا بأمور إداريّة، فمبروك على اللبنانيين الشعارات "والهوبرات" للزعماء التي تحكمه منذ مئة عام.
وفي النهاية، إذا استمر لبنان فارغاً من دون رئيس، فربما بدلاً من الدبلوماسيين البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، سيكون مفاوضا هذا الزمن: آموس هوكشتاين-الياس بو صعب.
[1] معاهدة سايكس بيكو اتفاقية سرية وقد جرت مفاوضاتها الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23 تشرين الثاني 1915 و3 كانون الثاني 1916 وتم التوقيع عليها في 9 و16 أيار سنة 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وبموافقة الإمبراطورية الروسية وإيطاليا. كان الهدف منها تحديد مناطق النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط اذا تمكن الحلفاء من هزيمة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
وفقًا للاتفاقية، تم تقسيم الأراضي العربية العثمانية خارج شبه الجزيرة العربية إلى مناطق تحت السيطرة البريطانية والفرنسية. فحصلت الأولى على على ما يُعرف اليوم بجنوب إسرائيل وفلسطين والأردن وجنوب العراق، بالإضافة إلى منطقة صغيرة تشمل موانئ حيفا وعكا للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. بينما حصلت الثانية على السيطرة على جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان.
[2] مؤتمر سان ريمو هو مؤتمر دولي عُقد في مدينة سان ريمو الإيطالية من 18 إلى 26 نيسان 1920. تم خلاله تحديد شروط الصلح مع تركيا بعد الحرب العالمية الأولى وتوزيع انتدابات عصبة الأمم من الفئة “أ” لإدارة ثلاث مناطق عثمانية غير محددة في الشرق الأوسط: “فلسطين” و"سوريا" و"العراق". حضر المؤتمر ممثلون عن الحلفاء الرئيسيين في الحرب العالمية الأولى، وتم خلاله التصديق على معاهدة سيفر وتقسيم سوريا الكبرى إلى ثلاثة أقسام: سوريا، لبنان وفلسطين بما فيها شرق الأردن. وضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، بينما وضعت فلسطين والأردن والعراق تحت الانتداب البريطاني.