بعد ان كانت الحرب بين روسيا واوكرانيا هي محط الانظار والاهتمام، والشغل الشاغل للعالم، وبعد ان تم الترويج على ان انتصار روسيا سيعني قتل الديمقراطية في اوروبا بشكل عام، لم تعد أوكرانيا "الطفل المدلل" للغرب وتحوّلت الى ما يمكن الاستغناء عنه في سبيل امر آخر اكثر اهمية وهو الحرب في غزة، وكيفية مساعدة إسرائيل من دون الوقوع في مطبّ الحرب الشاملة. يصرخ الاوكرانيون كل يوم، ويصل صدى صوتهم الى القارات الخمس، ولكن ليس هناك من يسمع. يشكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في السرّ، حركة "حماس" والفلسطينيين على اطلاق "طوفان الاقصى"، كما لا يخفي سروره من انانية رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو واستعداده لادخال العالم في اتون الحرب في سبيل الحفاظ على مصالحه ومستقبله السياسي.
في خضمّ الحرب الروسية-الاوكرانية قالها الغربيون: لا يمكن السماح لروسيا بالفوز، والا... وها هم اليوم يغيّرون استراتيجيتهم ويعتبرون انه يمكن التخفيف من اهمية الانتصار الروسي والتفاوض حول المكاسب التي يمكن ان يحققها الروس، وتقليل الضرر على اوكرانيا قدر الامكان. ولمن لا يزال يشكّك او يسأل حول قدرات اسرائيل في التأثير على العالم وقراره، لم يعد بحاجة الى الكثير من التفكير والادلّة، فأميركا والعالم مستعدان للتراجع عن كل شيء مقابل ضمان مصلحة اسرائيل، حتى ولو عنى ذلك التخلي عن اوكرانيا وتركها فريسة للدب الروسي، وصمّ الاذان عن نداءات الرئيس الاوكراني "المخدوع" فولوديمير زيلنسكي الذي دأب منذ فترة، مع كبار مساعديه ومسؤوليه العسكريين، على التحذير من ان روسيا بدأت تتقدم على اكثر من محور، وان التراجع الاوكراني صار حتمياً اذا ما بقيت الامور على ما هي عليه، ولكنه لم يلق سوى التأييد الكلامي الذي لا فائدة منه عملياً.
ووفق المعلومات الواردة من صالونات الأمم المتحدة وما يقوله ممثلو الدول هناك، فإن الاميركيين والاوروبيين لم يتوقعوا ان تطول الحرب في غزة، واعتقدوا ان حلّ رباط اسرائيل لـ"الانتقام" من "حماس" لن يتخطى الشهر مع كل ما يحمله من اجرام وقتل، الا ان الرياح جرت بما لا تشتهي سفن هذه الدول، وفتحت "شهية" نتنياهو على المزيد من القتل والتدمير لحصد اكبر قدر ممكن من الارباح السياسية والعسكرية وتحويل الانظار عن ملفاته. وبالتالي، فإن الحسابات التي كانت تقضي بالانشغال لفترة محدودة بالحرب في غزة، طالت اكثر بكثير مما كان متوقعاً، وادّت تعقيداتها الى تراجع الاهتمام بالقضية الاوكرانية شيئاً فشيئاً، وها هو الحديث اليوم يدور حول التوصل الى اتفاق مبكر مع الروس يخفف على الاوكرانيين المزيد من الخسائر.
يمكن القول ان "طوفان الاقصى" جرف معه الدعم العالمي لاوكرانيا، ومع كل يوم تطول فيه الحرب في غزة، تتضاءل قدرة الاوكرانيين على المقاومة والوقوف في وجه الروس وتعزيز فرص تقوية شروطهم ومطالبهم، وهو ما لم يخف على روسيا التي استغلّت الوضع ولن تترك "الستاتيكو" الذي كان سائداً في الحرب مع اوكرانيا على حاله، واخذت تتقدم على كل محور متاح لها، وهي اصبحت اكثر ثقة وادراكاً ان الامور تتحوّل لصالحها وان اي اتفاق او تسوية سيعطيها حصة اكبر مما كانت ستحصل عليه قبل اشهر.
هذا هو الوضع اليوم، وهو يمكن ان يتغيّر في كل لحظة، انما وفق ما هو سائد ومتوقّع، فإن الحرب الاوكرانية- الروسية لن تشهد تحوّلات ضد الروس، وان العالم سيتأقلم مع وضع عالمي جديد يكون فيه لروسيا كلمة وازنة، بالتنسيق والاتفاق طبعاً مع الصين، بحيث تبدأ الخطوة الاولى الجدية نحو الغاء الاحادية في العالم، ليس فقط على الصعيد السياسي والعسكري، انما ايضاً على الصعيد المالي والاقتصادي.