"إن لَم تَرجِعوا وَتَصيروا كَالأولادِ، لا تَدخُلوا مَلَكوتَ السَمَواتِ... وَمَن قَبِلَ وَلَداً... إكراماً لِإسمي، فَقَد قَبِلَني أنا. أمَّا الذي يَكونُ حَجَرَ عَثرَةٍ لِأحَدِ هَؤلاءِ الصِغارِ المؤمِنينَ بيَ، فَأولى بِهِ أن تُعَلَّقَ الرُحى في عُنُقِهِ وَيُلقى في عَرضِ البَحرِ" (مَتَّى 18/3-6). "أنا البابُ فَمَن دَخَل مِنِّي يَخلُصُ" (يوحَنَّا 10/9).
بِهَذا الكَلامِ، تَوَجَّهَ المَسيحُ أوَّلاً الى التَلاميذِ وَتالِياً الى الفِريسيِّينَ، أخِذاً الزَمَنَ الحاضِرَ الى المُقبِلِ. في هَذا الإلتِماسِ الفِصحِيِّ، حَيثُ العُبورُ مِن... الى...، إبنُ الإنسانِ يَرتَبِطُ إلتِصاقاً بالضَعيفِ، بالمَرذولِ، بالمُهَمَّشِ. لَفظَتا "بايديون" (وَلَدٌ) وَ"مكروس" (صَغيرٌ) هُما المُفتاحُ. وإبنُ اللهِ بابُ العُبورِ.
في إسمِهِ تِراصُفٌ، فَتَنافُذٌ، فَتَذاوبٌ. قُدرَةٌ تَملأُ المَعبورَ خَلاصَاً.
أعُمقُ الأُلوهَةِ الفادِيَةِ الجِنسَ البَشَرِيَّ، مِن عُمقِ الوَلدَنَةِ المُختَزِلَةِ رُكنَةَ الإنسانِيَّةِ؟.
ها هُنا إلتِزامٌ مُطلَقٌ أقوى مِن وِجدانِيَّةٍ-روحانَوِيَّةٍ: إلتِزامُ عُرمَةٍ حَيَّةٍ بالطُهرِ. بالنِعمَةِ. إلتِزامُ خَلاصٍ لا مُخَلِّصَ فيهِ إلَّا مَصدَرَهُ. مُخَلِّصٌ سَيرورَتُهُ مِن طَبيعَتِهِ، المَدفوعَةِ بِحُبِّهِ لِأصغَرِ مَخلوقاتِهِ وَعيَاً.
في هَذهِ الإبانَةِ، كَلامٌ مُباشَرٌ لِلبنانَ-فينيقيا... وَجُلُّ التَلاميذِ مِنهُ، والفِريسِيُّونَ في مُواجَهَتِهِمِ.
هَذا الوَطَنُ ما عَرِفَ الذَبائِحَ الحَيَوانِيَّةً بَل، عِندَ المَخاطِرَ الشَديدَةِ والأوبِئَةِ الجارِفَةِ، كانَ يُقَدِّمُ أبكارَ صِبيَتِهِ قُربانَ فِداءٍ، على ما يَذكُرُ بورفيروسُ الصوريُّ (في التَقَشُّفِ، II، 56/1). فَيُقيمُ لَهُمُ مِحرَقَةً، وَمِن عِظامِهِمِ يَتَّخِذُ ذَخائِرَ يُنبِتُها في أساساتِ هَياكِلِهِ وَحُصونِ حَواضِرِهِ، لِتَكونَ حَدَّاً فاصِلاَ لِلألَمِ-المَوتِ عَنِ التَجَدُّدِ-الحَياةِ.
هَذا الإلتِحامُ بَينَ الفِداءِ والخَلاصِ، شَكَّلَ سِمَةً رَفَعَها لبنانُ مِنَ الأرضِيَّاتِ الى مَلَكوتِ الأُلوهَةِ، وِفقَ فيلونُ البيبلوسِيُّ حينَ يَروي كَيفَ كرونوسُ، صِنوُ الزَمَنِ، قَدَّمَ إبنَهُ الوَحيدَ ديودوروسُ ذَبيحَةً لِأورانوسَ، عَصفِ الريحِ، نِذراً لِصَونِ الشَعبِ مِنَ الطاعونِ.
أفي هَذا الإنشِدادِ عنانُ الأُلوهَةِ؟.
بَل يَقظَةُ الإرادَةِ الَتي تَختَبِرُ سِرَّ الفِداءِ، وَتُرَقِّيهِ مِن نِهايَةٍ الى مَرابِضَ الأبَدِيَّةِ: فِعلَ إتِّحادٍ وَخِصالَ وجودٍ. يَتَلَّقَفُها الأولادُ، الأنقِياءُ القُلوبِ والعُقولِ، في شَوقِهِمِ لِعَظائِمَ إنتِمائِهِمِ.
أوَلَيسَ إيلُ-الفينيقِيُّ-الُلبنانِيُّ مَن وَقَفَ بَينَ إبراهيمَ وَإبنِهِ إسحَقَ، حائِلاً دونَ تَقديمِهِ ذَبيحَةً مَجانِيَّةً، لا لِهَدَفٍ موقِنٍ، لا مِن أجلِ نَسغٍ يُستَمطَرُ على جَفافِ، بَل لِتَمَوضُعٍ فَردانِيٍّ، "أناهُ" مِحوَرِيَّةٍ لا إكتِمالَ لِلأُلوهَةِ فيها؟.
قُلتُ: فِعلَ إتِّحادٍ لِوجودٍ؟ لَقَد أُلصِقَت فيهِ شَمالِيَّاتُ نُعوتُ الدياجيرِ. مِمَّن؟ مِن أُولَئِكَ ألما دَنَّسوا الطُفولَةَ فَحَسبَ، بَل إستَجَرُّوها لِتَهاويهِمِ في الإيغالِ بالدَنَسِ. بالَلعَناتِ.
الصائِرونُ لِلشَيطانِ
أوَلَيسَ إغرِيقِيُّونَ مَن شَرَّعوا الدَعارَةَ مَعَ الأولادِ بِحُجَّةِ تَلقينِ المُعَلِّمِ لِطُلَّابِهِ؟ أوَلَيسَ مَقدونِيُّونَ مَن شَرَّعوا الصَلبَ لِلمُدافِعينَ عَن وجودِهِمِ، فَصَلَبَ إسكَندَرُهُمُ المُتأَلِّهُ فِتيَةَ صورَ المُقاوِمينَ الخُضوعَ لِمَن تَسمَّى إبنَ زوسَ؟ أوَلَيسَ رومانٌ مَن شَرَّعوا قَتلَ المؤمِنينَ بالمَسيحِ في كولوسِيَّاتِهِمِ، أو صَلبَهُمُ وإحراقَهُمُ لإنارَةِ روما؟ أوَلَيسَ إعرابِيُّونَ، قَبلَ الإسلامِ، مَن شَرَّعوا دَفنَ الفَتَياتِ حَيَّاتٍ لِلتَخَلُّصِ مِن عِبئِهِنَّ؟ أوَلَيسَ غَربِيُّونَ مَن عَلَّموا إبادَةَ فِتيَةَ شُعوبٍ أصلِيَّةٍ في القارَّاتِ ألتَصارَعوا على إستِعبادِها، فَتَعَمَّمَ الأمرُ إقتِداءً؟...
هُمُ الصائِرونَ لِلشَيطانِ مُنذُ ما قَبلَ المَسيحِ لِليَومِ، لَيسَ لَهُمُ إلَّا لبنانَ لِيَشفِيَهُمُ مِن ذَواتِهِمِ.
فَفي تَليدِ بَهائِهِ، المَسيحُ كَرَّسَ خَلاصِيَّةَ الأولادِ الأرساها لبنانُ تقوىً إيمانِيَّةً، قَبلَ أن يُدرِكَها فيهِ نَفحَةَ الأُلوهَةِ وَشُعاعَها... فإعتَنَقَ إذ ذاكَ تَداخُلَ اللوغوسَ بالمِعنى... وإستَقَرَّ فيهِ.
فَفيهِ وَحدَهُ الإنتِصارُ على يَمِّ عَثَراتِ سَيِّدِ هَذا العالَمِ و... أذنابِهِ.