تبقى واشنطن هي المحجّة والقرار. يُهرول الضعفاء من كل بلدان العالم لأخذ الرضى، ولشحن وجودهم بقليل من السيادة، كما يفعل اللبنانيون، وبكثير من التضليل والتزوير، كما يفعل الإسرائيليّون. كان واضحاً تصريح وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس حين قال إنّ "دولة إسرائيل تقاتل بأكثر الطرق أخلاقيّة في التاريخ"، وكأن العالم يعيش في القرون الغابرة حين كان الحمام الزاجل أحدث طرق التواصل!.
بين نيويورك وواشنطن تُستعرَض الوقائع بالصورة والصوت، ويتساوى الجلاّد والضحيّة تحت مقصلةِ التي تأسَّستْ للدفاع على الأمن والسلم وحماية المواطنين الأبرياء. دان العالم إسرائيل بصوتٍ عالٍ، ودانت الأخيرة قرار المحكمة الدوليّة مسنودةً إلى كتف راعيها الأميركي، رافضةً القرار، مهدِّدةً المدعي العام كريم خان بشتى الوسائل، تبدأ من محاكمته وطرد الموظفين من المحكمة العليا وقطع الدعم المادي عنها، وهبّت إسرائيل، حكومةً وكنيستاً، لاعتبار القرار لحظة عار لا يجب السكوت عنه.
لقد بدأت المعركة بين المحكمة الجنائية الدولية وإسرائيل. وستكون معركة طويلة وشرسة، وستطال عقوباتها دولاً وأنظمة وأشخاصاً، طالما ان العنصر الأميركي موجود في الملف، لم تتحمّل الولايات المتحدة وإسرائيل، على السواء، مذكرات توقيف بحق رئيس وزراء الحرب الاسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت بسبب ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية. ومع أنّ لائحة الدول الداعمة لفلسطين أصبحت طويلة، ينكب الكونغرس الأميركي على دراسة إصدار عقوبات على المحكمة الجنائية، التي أصبحت بدورها بحاجة الى من يدافع عنها!.
السؤالُ اليوم، هل تنجح المحكمة الجنائية الدولية وتفعل ما عجزت عنه الأمم المتحدة وفروعها المنتشرة حول العالم؟ وهل ستنجح بقرارها اليوم وقف الهجوم على رفح بدَلاً من مجلس الأمن العاجز حتى عن إدخال " كرتونة بيض" الى غزة المتضوّرة جوعاً؟.
في واشنطن تعاطُفٌ تجاه حليفتهم اسرائيل لم يسبق له أيّ مثيل. فالرئيس الأميركي جو بايدن أعلن أن بلاده لن تمتثل لقرار المحكمة الدولية؛ فالكونغرس بأكمله متّحد ضد مذكرات الاعتقال، والولايات المتحدة لن تعترف بهذا القرار.
من جهته، أعلن وزير الخارجية الأميركي عن استعداده للعمل مع الكونغرس لفرض عقوبات على المحكمة الجنائيّة الدوليّة، وهي تهديدات تهدف الى محاولة نزع الشرعيّة عنها كما عن محكمة العدل الدولية.
أميركا اليوم تلتفّ على التاريخ والقوانين الدوليّة في إدارة بايدن التي تواجه انتقادات من داخل حزبها الديمقراطي الذي انقسم بشأن العلاقة مع إسرئيل، وستظهر نتائجها في الانتخابات المقبلة.
ورسمياً، تمّ الإعلان عن استضافة الكونغرس لرئيس الوزراء الإسرائيلي قريبا كدليل على دعم أميركا للحكومة الإسرائيلية. ومن المتوقع أن يلقي خطابا فيه خلال الشهرين المقبلين. لكن لم يتمّ تحديد الموعد بعد. زيارة نتانياهو أقل ما تقدر على فعله هو إيقاف مشروع الاعتراف بدولة فلسطين وانضمامها الى الأمم المتّحدة من خلال الفيتو الأميركي، ويضمن استمرار الدعم اللوجستي والمالي لتكملة الحرب حتى القضاء على حماس، وأخذ جرعة جديدة من الدعم المادي والرضى الأميركيَّين.
في السياسة الأميركية، إسرائيل غاضبة من قرار المحكمة، وهي تعتبر أنها تحارب من أجل وجودها، في حين ان ليس للفلسطيني الحق في الدفاع عن أرضه وأبنائه الذين توفي الكُثُر منهم يوم ولادتهم، والعالم ما زال يتفرّج على أبشع إبادة ناهز عدد ضحاياها 35 ألفاً حتى اليوم.
وبعد صدور قرار المحكمة الجنائية، سوف تتحمل مطارات 124 دولة حول العالم مسؤوليّة توقيف نتانياهو وقائد حماس يحيى السنوار على السواء، إذا حطّ أحدهما أراضي هذه الدول التي وقّعت على نظام روما الأساسي. وسيجدان نفسيهما امام محكمة قد تُودي بهما الى غياهب السجن.
في الأفق القريب، يبدو ان محادثات وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين على وشك الوصول الى طريق مسدود. فالمحكمة الجنائية أقفلت باب الفرَج باتهامها أناساً لا يمكن المسّ بهم مهما فعلوا، كما "خَرْبَطَت" عمليات التطبيع في المنطقة. وعِوَضَ ان تكون هي الحلّ، أصبحت هي على ما يبدو طرف النزاع الثالث في حرب تتوسع يوماً بعد يوم.
من الواضح ان قرار توقيف نتانياهو وغالانت زاد من إصرار الإسرائيليين على احتلال رفح، كما صرح وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير، وقادة المحكمة الدولية مصرّون على النطق بلغة القانون مع أن للمحكمة سوابق بعدم تنفيذ مذكرات توقيف مثل ما حدث مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنها نُفّذت عام 2012، مع رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور، والرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش الذي توفي في زنزانته في لاهاي عام 2006 أثناء محاكمته.
مع قرار المحكمة الدولية سينقسم العالم مرّة جديدة بين مناصر للحق ومؤيد للإجرام، في صورة واضحة ترسمها هَيمنةَ المصالح الدوليّة، وصحَّةَ ما قاله "الأخوين رحباني": "العدالة كرتون... الحرية كذب... وكل حكم بالأرض باطل".
سمر نادر
الأمم المتحدة - نيويورك