أن تَعودَ لِمِصرَ "شَمسُها الذَهَبُ"، في ذَلِكَ قِيادَةٌ لا مِن صَحراءَ بَل... مِن لبنانَ. رُعاتُها تأهَّبوا مِن قَبلُ، فَما أصاخوا بأسماعِهِمِ... إذ أصلُهُمُ مِن بيبلوسَ، عاصِمَةِ لبنانَ-فينيقيا الروحِيَّةِ، على إمتِدادِ المَشرِقِ، وَما بَعدَهُ بَعدُ.

ها تورُ-هِرمِسُ البيبلوسِيُّ، المُثَلَّثُ العَظَمَةَ، إبنُ مايا، إبنَةُ أطلَسَ شَقيقِ المَلِكِ إيلَ البيبلوسِيِّ: عَبقَرِيُّ الألفِ الثالِثِ الكِونيِّ، قَبلَ الميلادِ، وَمُنَظِّمُ قَضايا الإيمانِ والعَقلِ. كِتاباتُهُ سَتُسَمَّى "بِبِلُ"، نِسبَةً لِبيبلوسَ، وَسَتُعرَفُ بِ"الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ" إلمِنها سَيَستَلهِمُ العِبرانِيُّونَ كُتُبَهُمِ الأولى وَيُلَقِّبونَها بإسمِهِ: "تورا"-التَوراةِ. وَيَذكُرُ فيلونُ البيبلوسِيُّ نَقلاً عن البَيروتِيِّ سَنخوني-أتُنِ، المُؤَرِّخُ الأوَّلُ، أنَّهُ المُبادِرُ الى إعطاءِ أسماءَ عُظَماءِ لبنانَ-فينيقيا لا لِأشخاصَ وأماكِنَ فَحَسبَ بَل وَلِلأفكارِ المُجَرَّدَةِ... ما سَيُتيحُ لاحِقاً أن يَنبَثِقَ مِن إسمِ والِدَتِهِ عِبارَةُ "ماتِر" وَمُشتَقَّاتُها، إضافَةً لإسمِ شَهرٍ سَتُخَصِّصُهُ الكَنيسَةُ لِأُمِّ اللهِ.

وَوالِدَتُهُ مايا، "رائِعَةُ الغاباتِ" وَ"رَمزُ الأرضِ" وَ"إلِهَةُ الزَهرِ" وَ"خَصبُ التُرابِ"، على ما يَصِفُها شُعَراءُ البليادِ الإغريقُ، كُرِّمَت لا وَحدَها بَل وإيَّاهُ، مَعاً. أحَبَّت مِصرَ-إيغيبتو البيبلوسِيَّ، وَمِن حُبِّهِما ولِدَ تورُ في الرابِعِ مِنَ الأيَّامِ. فَكُرِّسَ لَهُ، في لَهجاتِ مُستَعمَراتِ لبنانَ-فينيقيا ما بَعدَ جَبَلِ هِرَقلِسَ، الى اليَومِ: "ثورزداي"-يَومُ تورَ.

هو مُكتَشِفُ الكِتابَةِ الأولى: الهيروغليفِيَّةِ، وَلاحِقاً مُختَرِعَ الأحرُفِ الأبجَدِيَّةِ، لُغَةَ التواصُلِ المُجَرَّدَةِ، على ما يُؤَكِّدُ سَنخوني-أتُنُ. وَقَد أعطى إسمَ أبيهِ لِتِلكَ الأرضِ مِن رِمالٍ التي تَحتَ الجَنوبِ الُلبنانِيِّ-الفينيقيِّ. وَعَلَيها مَلَكَت أوَّلُ سُلالَةٍ بيبلوسِيَّةٍ-فِرعونِيَّةٍ، نَقَلَت إلَيها تَحَسُّسَ الإنسانِ بالأُلوهَةِ، كَما خَطَّها وَعَلَّمَها تورُ. فَخَلَقَت مِن ذاتِها عالَماً خاصَّاً وَتَبادُلِيَّةً إنطَلَقَت مِن بِداياتِ العَصرِ البرونزيِّ وَإستَمَرَّت لِأجيالَ بَينَ بيبلوسَ-الأُمِّ وَمِصرَ-إيغيبتوسَ خَليقَتِها، على ما تَشهَدُ لَهُ "وَثيقَةُ اونامون Ounamon" المُدَوَّنَةُ على بابيروسٍ إكتُشِفَ في العامِ 1890 ميلاديٍّ، وَتَرجَمَهُ العالِمُ الروسِيُّ Vladimir Golenichtchev.

وَيُشَدِّدُ هيرودوتُ على أنَّ السُلالاتَ الفِرعَونِيَّةَ وَطَّدَت هَذِهِ العَلاقَةِ، التي تَوَّجَها الفِرعَونُ نيكاو الثاني (مِنَ السُلالَةِ 26، وَحَكَمَ مِنَ العامِ 610 الى 595 قَبلَ الميلادِ) بالطَلَبِ مَن لُبنانِيِّينَ-فينيقيِّينَ الإبحارَ حَولَ إفريقيا لِإكتِشافِها وَنَشرِ مُستَعمَراتِهِمِ حَولَها. كَما يَستَحضِرُ نَفسُهُ وَجودَهُمُ الكَبيرُ في مِمفيسَ، وَعِباداتَ ثالوثِهِمِ بِشَهادَةِ كِتاباتِهِمِ في سَقارةَ حَتَّى عُمقِ الداخِلِ، حَيثُ عُرِفوا وأحفادَهُمُ في العَصرِ البطُلِميِّ، بِـ"Phoinikaigyptioi"، الفينيقيِّينَ-المَصرِيِّينَ.

سُطوعُ الحَياةِ

أمِن خَواءِ الصَحراءِ يُشِعُّ ضِياءٌ؟

مِن لبنانَ يأزُفُ سُطوعُ المُعجِزَةِ، وَبِهِ يُستَنارُ عالَمٌ مِن قَفرٍ، عالَمٌ خَرِبٌ، لا إمكانِيَّةَ لِحَياةٍ فيهِ.

مِن لبنانَ الصَفاءُ الصاحِيُ يَنتَشِرُ وَداعَةَ إشعاعٍ، وَفي الضِياءِ نُموٌّ فيهِ تُعَشِّشُ ذُروَةُ عِناقَ الأرضِ بالشَمسِ.

مِن لبنانَ إستِفاقَةُ المَدى على الرَحابَةِ، يَستَودِعُها وَعداً لا يَنسَلُّ رِمالاً هارِبَةً بَل يَرتَفِعُ نُذراً تَحَقَّقَ فَلا قُدرَةَ لِأحَدٍ أن يَدفَعَهُ لِلَيلٍ يَغوصُ فيهِ مُحَطَّماً.

لا! مَعَ لبنانَ، لَيسَ كُلُّ شَيءٍ تَصَلُّبُ فَراغٍ، لَيسَ أيُّ شَيءٍ هَباءً. الأَشَقُّ مَعَ لبنانَ، أنَّ اليَقينَ مِنَ الإستِحالَةِ المُطلَقَةِ إنطِلاقَتُهُ، وَبِها نَبضُهُ... وَفي مُكابَدَةِ المُطافِ هَديرُهُما.

لِلعالَمِ أن يَنطَفِىءَ إخفاقاً، أو جُنوناً، أو عُنفاً. لإستِغاثَتِهِ، حَدَّدَ لبنانُ مَصيرَهُ. فَيَومَ نَشَرَ تورُ البيبلوسِيُّ تِلاقِيَ العَقلِ والإيمانِ فيهِ، مُستَلهِماً مِن أُمِّهِ وأبيهِ عَزمَ حِكمَتِهِ، ثَبَّتَ أنَّ قَضِيَّتَهُ لَيسَت بِخاسِرَةٍ، مَهما كابَدَ العَدَمُ إهراقَ نَفسِهِ في حَماقاتٍ صِرفٍ.

أيَكونُ العالَمُ مُمكِناً؟ لِكي لا يَكونَ هاوِيَةَ صَحراءٍ وَسَرابَها... كانَ لبنانُ. مُذ كانَ!