لا يبدو مُبالَغًا به القول إنّ "طبول الحرب" بين إسرائيل ولبنان بدأت تُقرَع بصورة أو بأخرى، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ميدانيًا وسياسيًا وإعلاميًا، فعلى الأرض، شهدت الجبهة المفتوحة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، ما يصحّ وصفها بالجولة الأعنف من التصعيد، مع تسجيل وتيرة غير مسبوقة من عمليات القصف الإسرائيلي التي تستهدف العديد من المناطق، وكذلك العمليات المضادة التي ينفذها "حزب الله"، والتي يبدو أنّها انتقلت إلى مرحلة مختلفة.

لكنّ التصعيد الميداني "الأعنف"، مع ما قد يحمله من دلالاتٍ ورمزيّة، لا يأتي معزولاً، فهو يترافق مع تهديدات هي الأقسى من نوعها منذ بدء المناوشات بين الجانبين، يتناوب عليها المسؤولون الإسرائيليون، لا تخلو ربما من "الشعبوية"، لكنها توصل رسالة بوجود "مشكلة حقيقية وجدّية" في الشمال، حيث يقول الإسرائيليون أنفسهم إنّ "قوة الردع" تتآكل، وهو ما جسّده مشهد "الحرائق الممتدة" على طول الجبهة في الأيام القليلة الماضية.

وقد تصدّر ما يوصَف بـ"الجناح الأكثر يمينيّة وتطرفًا" في الحكومة الإسرائيلية، وتحديدًا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش، هذا المستوى من التهديدات، حيث تقاطعا على الدعوة إلى "حرق لبنان"، وصولاً لحدّ إعادته إلى "العصر الحجري"، بل إنّ الأمر وصل بسموتريتش مثلاً إلى حدّ الدعوة إلى خلق "وضع يكون فيه لبنان منشغلاً في السنوات العشرين المقبلة بجهود إعادة بناء ما يتبقى منه بعد الضربة التي نوجهها إليه".

لكن، إذا كان هناك من يعتبر أنّ سموتريتش وبن غفير ليسا صاحبا القرار في قلب الحكومة الإسرائيلية، وهما اللذان لا يكفّان عن التحريض على العنف والحرب، من غزة إلى لبنان مرورًا بالضفة، فإنّ اللافت أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دخل بدوره على الخط، متوعّدًا بـ"تحرك قوي جدًا" ضد لبنان، بعد أيام من إيعازه للجيش بـ"تكثيف وتوسيع" العمليات ضدّ "حزب الله"، فهل يعني ذلك تكريس معادلة "لبنان بعد رفح"؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ المشهد على الجبهة اللبنانية أخذ في الأيام الأخيرة منعطفًا جديدًا، يختلف عن كلّ المراحل السابقة، وإن بقي "مضبوطًا" بقواعد اشتباك غير مُعلَنة، وضمن سياسة "التوسّع التدريجي" للمعارك، التي لم ترقَ حتى الآن على الأقلّ إلى مستوى "الحرب الشاملة"، ولو أنّ ما يشهده الجنوب منذ الثامن من تشرين الأول هو بمثابة "حرب حقيقية"، بكلّ ما للكلمة من معنى، حتى وإن بدت محصورة إلى حدّ بعيد جغرافيًا ولوجستيًا.

وفقًا لهؤلاء، فإنّ اختلافًا جذريًا بدأ يُرصَد في واقع الجبهة في الأيام الأخيرة، وتحديدًا بعد بدء الهجوم الإسرائيلي على رفح، حيث تكثّفت العمليات على الجبهة اللبنانية "الموازية" إن جاز التعبير، سواء من جانب "حزب الله" الذي يقول العارفون إنّه "فعّل" الدور الذي يلعبه، من باب الانسجام مع فكرة "الإسناد" التي فتح الجبهة على أساسها، حيث أدخل تكتيكات وأسلحة جديدة إلى المعركة، أو من جانب الجيش الإسرائيلي الذي اختار "التصعيد" على طريقته.

وإذا كان صحيحًا أنّ الاستنفار الإسرائيلي الذي دفع نتنياهو بأن يوعز لجيشه بتوسيع وتكثيف الضربات لعب دورًا جوهريًا في التحوّل "الكمّي" الذي شهدته المعارك في الأيام الأخيرة، فإنّ العارفين يشيرون إلى تحوّل "نوعي" أسهمت فيه الضربات التي نفذها "حزب الله" في المقابل، من إسقاط المسيّرة التي وصفها الإسرائيليون بـ"الأكبر والأغلى"، وصولاً إلى الحرائق التي تسبّب بها على طول جبهة الشمال، والتي أشعرت الإسرائيليين بنوع من "الخيبة".

ولعلّ كلام زعيم المعارضة الإسرائيلية بيني غانتس عن أنّ "الشمال يحترق ومعه تحترق قوة الردع الإسرائيلية" خير دليلٍ على هذا الواقع، الذي دفع بالتهديدات إلى أن تبلغ ذروتها من "الجنون"، إن جاز التعبير، وهو ما تجلّى مثلاً في كلام وزير المالية الإسرائيلي الذي رسم سيناريو "الحرب" بما يتجاوز حتى حرب تموز 2006، ويقوم على دمج بين الهجوم البري والاحتلال، وصولاً إلى ضرب العاصمة بيروت نفسها، والتي وصفها بـ"عاصمة الإرهاب".

بالتوازي مع التصعيد الميداني والسياسي، والتهديدات غير المسبوقة، يتصاعد الحديث عن سيناريوهات، بينها ما يُحكى عن أن لبنان هو "التالي" على بنك الأهداف الإسرائيلية بعد رفح، وهو سيناريو بدأ يتصاعد الحديث عنه في الأوساط السياسية، على وقع "الإشاعات" عن تبليغ الجهات الرسمية بطريقة غير رسمية، بأن الأسابيع المقبلة ستشهد على عملية إسرائيلية واسعة، فهل يعني كلّ ذلك أنّ "حرب لبنان الثالثة" أصبحت فعلاً "على النار"؟.

حتى الآن، يقول العارفون إنّ الأمر لا يزال مُستبعَدًا، وإن كانت كل السيناريوهات تبقى مطروحة على الطاولة، وذلك باعتبار أنّ ما كان يحول دون توسيع الحرب إلى الحدّ الأقصى في الفترة الماضية، لا يزال قائمًا بصورة أو بأخرى، وفي مقدّمها غياب الضوء الأخضر الأميركي والدولي، علمًا أنّ إدارة الرئيس جو بايدن تضغط لإنهاء حرب غزة لتتفرغ لاستحقاق الانتخابات الرئاسية، وآخر ما تريده أن يشتعل صراع آخر في المنطقة.

أكثر من ذلك، ثمّة من يرى أنّ ما جرى في الأيام الأخيرة على خط الجبهة الشمالية من شأنه أن يثني الإسرائيليين عن المضيّ إلى الأمام، باعتبار أنّهم أدركوا أنّ الحرب ضد "حزب الله" ستكون أكثر كلفة من الحرب على غزة، ما يجعلهم أكثر ميلاً نحو الحرب "المحدودة" كتلك القائمة حاليًا، بالتوازي مع تفعيل القنوات الدبلوماسية في سبيل التوصل إلى "تسوية" تحفظ ماء وجههم، وتجعلهم يتجنّبون الانزلاق إلى معركة ليسوا جاهزين لها.

بهذا المعنى، يمكن فهم التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، بعيدًا عن نطاقها "الشعبوي" الذي لا يمكن تجاهله، على أنّها جزء من "الحرب النفسية" التي تخوضها تل أبيب ضدّ "حزب الله"، وذلك عبر رفع السقف لجرّه إلى طاولة المفاوضات، وهو الذي يرفض حتى الآن الجلوس على هذه الطاولة، قبل التوصل إلى وقف دائم وشامل لإطلاق النار في قطاع غزة، فيما يصرّ الإسرائيليون على "فصل الجبهات" في المقام الأول.

يبقى الأهم وسط كل ذلك، أن إسرائيل تريد "حلاً جذريًا" للأزمة الجدية التي تعاني منها في ظلّ "الهجرة القسرية" المستمرة على خط مستوطنات الشمال، والتي يرفض سكّانها العودة إليها من دون إنهاء "الخطر" الناجم عن صواريخ "حزب الله" القادر على فتح الجبهة في أيّ وقت يشاء، وهو ما يُخشى أن يؤدّي إلى اشتعال الصراع، إذا ما بقيت المفاوضات تدور في حلقة مفرغة، علمًا أنّ نتنياهو قال بوضوح إنّه سيعيد الأمن للمنطقة "بهذه الطريقة أو بأخرى".

في النتيجة، يمكن القول إنّ "طبول الحرب" التي تُقرَع فعلاً أكثر من أيّ وقت مضى، لا تحتّم بالضرورة الذهاب فعلاً إلى الحرب، بكلّ معنى الكلمة، طالما أنّ أيّ "غطاء" لمثل هذه الحرب ليس متوافرًا، وطالما أنّ الطرفين لا يريدانها. لكن الثابت أنّ أي شيء لا يمكن "مضمونًا" في هذا الإطار، ولا سيما أنّ معظم الحروب تندلع "فجأة"، من دون أن تكون أطرافها راغبة فعلاً في الانزلاق إليها، وهنا القطبة المخفيّة التي يُخشى منها تحديدًا!.