أن يكون الإنسان عديم البصيرة لهو مصيبة كبرى، لأنَّه يكون في غربة عن الربِّ يسوع المسيح الَّذي هو النّور. البصيرة الَّتي هي الاستنارة، تأتي بعد التنقية والتوبة والاعتراف وسلوك الطريق المستقيم، طريق الربِّ الصحيح، وطريق الإنجيل المحيي، وهي تأخذنا إلى التألُّه والقداسة لا محالة. وعكس البصيرة هناك الظلمة الخارجيَّة، أي خارج الملكوت.
لهذا نقول: ما النفع مِن أن يكون الإنسان يرى ولا يبصر يسوع مثل الفرِّيسيِّين الَّذين أعمى الكبرياء قلوبهم، فأظلمت بصيرتهم بسبب عشقهم لأنفسهم والسعي إلى المجد الباطل؟ لهذا، البصيرة نعمة كبيرة في حياتنا كي لا نتيه في الشطط ونقع في الفراغ.
فأعمى أريحا جبل له الربُّ مقلتين من الطين، أي خلق له عينين مثلما جبل الله آدم، وأرسله يعتمد في بركة سلوام الَّتي تعني المرسل، ليعود يرسله صحيح البصيرة إلى الهيكل، ليدعو عميان الشريعة والناموس ليبصروا خلاص الربِّ ومجده.
كتابات آبائيَّة كثيرة تكلَّمت على بصيرة الإنسان وكيفيَّة اكتسابها، والعينان المفتوحتان في الفنِّ الإيقونغرافيِّ تترجمان هذه البصيرة. لهذا تصوِّر العينين كبيرتين تعبيرًا عن أنَّ صاحبهما يحدِّق في الملكوت السماويِّ ولا يصبو إلى سواه. هذا عشقه وكلُّ مبتغاه، والربُّ يسمح بمحبَّته اللامتناهية بأن نتذوَّق مسبقًا شيئًا من الملكوت لنتعزَّى ونحن ما زلنا في الجسد الترابيِّ. ومن عرف الهدوئيَّة وسكون القلب سكن النور الإلهيُّ غير المخلوق فيه، وأصبح منارة يهدي كثيرين إلى ميناء عدم الاضطراب والسلام الداخليِّ.
عودة إلى الأيقونات المقدَّسة، قد نرى في بعض منها، وتحديدًا في أحداث معيَّنة، عينين مغمضتين. مثالًا على ذلك، أيقونة الصلب وأيقونة إنزال المصلوب، وأيقونة التواضع الأقصى، والأيقونة الَّتي تعرف باسم Epitaphion - Epitaphios[1] حيث نرى يسوع ملقى على القبر، تحيط به والدة الإله والقدِّيس يوحنَّا الحبيب الإنجيليُّ اللاهوتيُّ ويوسف الرامي وحاملات الطيب وملائكة.
العينان المغمضتان هما إشارة إلى أنَّ يسوع مات في طبيعته البشريَّة وقام بسلطان طبيعته الإلهيَّة. هذا معناه أنَّ الموت اندثر إلى غير رجعة، وصار موتنا رقادًا وانتقالًا إلى الحياة الأبديَّة. فنحن بالمسيح يسوع نرقد ولا نموت، لأنَّ الموت هو الانفصال عن النّور. فنار الخطيئة تحرق ولا تضيء.
لا بدَّ هنا من ذكر مفارقة موجودة في جداريَّة من بداية القرن الثامن الميلاديِّ، مصوَّر عليها الربُّ يسوع مصلوبًا وعيناه مفتوحتان. الجداريَّة موجودة في بازيليك القدِّيسة ماريَّا ماجوري (أنتيكا) في إيطاليا مِن تصوير أنطاكيّ.
عينا الربِّ المفتوحتان تشيران إلى أنَّ يسوع مات في طبيعته البشريَّة فقط.
يسوع في هذه الجداريَّة ليس عاريًا بل يلبس قميصًا طويلًا أنطاكيًّا ومن دون أكمام وهو ال χιτῶνα kHITONA.
لونه الأصلي بين الليلكي والأرجواني ومستخرج من المحار من الساحل الفينيقي، تغيّر مع عامل الزمن. خلف رأسه هالة القداسة، وفي داخلها صليب، إشارة إلى صلبه، وعلى الصليب في الأعلى لافتة تحمل كتابة باللغة اليونانيَّة.
نشاهد في الجداريَّة والدة الإله عن يمين الربِّ والقدِّيس يوحنَّا الإنجيليَّ عن يساره، بأجساد كبيرة الحجم. كذلك نشاهد قائد المئة لونجينوس يطعن الربَّ في جنبه، وجنديًّا آخر يعطي يسوع إسفنجةً مغطَّسة بالخلِّ. كلاهما حجمهما أصغر. رِجلا يسوع ليستا فوق بعضهما، وعلى كعب الصليب يوجد ما يشبه ثلاثة مسامير.
هناك أيقونة شبيهة لها من القرن التاسع الميلادي ومحفوظة في دير القدِّيسة كاترينا في سيناء، ولكنَّ عيني الربِّ فيها مغلقتان، ويرتدي فيها القميص الأنطاكيَّ الطويل، الأرجوانيَّ اللون (بورفير)، المستخرج من الساحل الفينيقيِّ، وعليه خيط ذهبيٌّ.
قبل أن نختم، نذكر أيضًا أيقونة رقاد والدة الإله الَّتي نرى فيها عيني العذراء مريم مغمضتين، فهي ترقد بسلام لأنَّها عاشت في التسليم الإلهيِّ الكلِّيِّ. هذا كلُّه ترجمة لإيماننا بأنَّنا خلقنا لنكون مبصرين إلهنا الَّذي تجسَّد ليؤلِّهنا. ومَن أبصره عاش معه ونقله الربُّ إليه.
فما أجمل أن نتأمَّل في الآية الَّتي دوَّنها القدِّيس يوحنَّا الإنجيليُّ: «ونعلَمُ أنَّ ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحقَّ. ونحن في الحقِّ في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحقُّ والحياة الأبديَّة» (1 يو 5: 20).
إلى الربِّ نطلب.
[1]. Ἐπιτάφιος, epitáphios, or Ἐπιτάφιον, epitáphion: on the tomb - επί του τάφου – على القبر