شهدت العلاقات الصينية- الفلسطينية موجات مد وجزر ومرّت بتحوّلات عديدة منذ قيام الكيان الإسرائيلي ونكبة فلسطين عام 1948.
بدأ تعاطي الصين مع فلسطين والقضية الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين حيث حظي المشروع الصهيوني بتعاطف بعض قوى النظام الصيني القومي الحاكم أنذاك. وكان المجتمع اليهودي في الصين، على الرغم من صغر حجمه، صهيونياً متحمّساً، يجمع تبرعات ويوفر استثمارات للمساعدة في بناء وطن قومي لليهود في فلسطين. ودعم النظام الصيني القومي آنذاك الذي انتقلت قيادته وأنصاره إلى جزيرة تايوان لاحقاً وشكلت جمهورية الصين، وعد بلفور ديبلوماسياً. وعلى الرغم من امتناع القوميين الصينيين عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي قادت إلى إنشاء "إسرائيل"، فإنهم اعترفوا بإسرائيل وسمحوا بإقامة قنصلية إسرائيلية. وبعد الانتصار الشيوعي في تشرين الأول 1949 وتأسيس جمهورية الصين الشعبية، جرى صدّ محاولات إسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين.
اعترفت إسرائيل عام 1950 بجمهورية الصين الشعبية، لكن ظلت العلاقات بينهما عرضة للتأثيرات السلبية بواسطة أطراف ثالثة، مما أعاق إنشاء علاقات رسمية بينهما لأكثر من 40 عاماً. الزعيم الصيني ماو تسي تونغ تبنى موقفاً كان يرى أن "إسرائيل وتايوان هما قاعدتان للإمبريالية في آسيا، حيث أسس الغرب إسرائيل ضد العرب، وتايوان ضد الصين" بحسب تعبيره. ودعت بكين منظمة التحرير الفلسطينية إلى إرسال بعثة شبه دبلوماسية كانت الأولى لها في بلد غير عربي، كما اعترفت في عام 1988 بدولة فلسطين.
منذ ستينيات القرن العشرين وحتى بداية التسعينات منه، تبنّت الصين الشعبية موقفاً مؤيّداً للقضية الفلسطينية بقوة. وشكّل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964 بداية لعلاقة مباشرة بين الصين والفلسطينيين. وقام أحمد الشقيري، زعيم منظمة التحرير آنذاك، بزيارة بكين في سنة 1965. وكانت الصين أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير.
فسحت حرب سنة 1967 المجال لنشاط كيانات فلسطينية مستقلة مثل حركة فتح. ووجد لجوء "فتح" إلى العمل المسلّح والعمليات الفدائية المنطلقة من الأردن أصداء إيجابية في بكين، التي رأت قياداتها في ذلك ما يشابه نضالاتها المسلحة السابقة ضد القوميين في الأربعينيات. وقدمت الصين، بين أواخر الستينيات وأواسط السبعينيات، ما قيمته 5 ملايين دولار من المساعدات العسكرية والمالية.
تراجع دعم الصين لمنظمة التحرير خلال السبعينيات إلى حد ما.
سنة 1974، قامت الصين برفع مكانة مكتب منظمة التحرير في بكين إلى مستوى سفارة، وصوّتت، في سنة 1975، لمصلحة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية.
وخلال ثمانينيات القرن الماضي، دعمت الصين القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي. واقترحت في سنة 1984 عقد مؤتمرٍ دولي برعاية الأمم المتحدة لحل القضايا الخلافية بين إسرائيل والعرب، وجدّدت اقتراحها هذا في سنة 1989.
بدأت الصين بتطوير علاقات مع إسرائيل خلال الثمانينيات. وكانت العلاقات في البداية علاقات مقايضة ارتكزت إلى تجارة أسلحة، تقدم فيها إسرائيل إلى الصين تجهيزات عسكرية مصنوعة في الاتحاد السوفياتي، غنمتها خلال حروبها مع الجيوش العربية.
لكن في سنة 1991، امتنعت الصين عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 86/46 الذي ألغى القرار 3379، الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وهو ما مكّنها من إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في سنة 1992. وعملياً، أفضى ذلك إلى ازدهار علاقات الصين مع إسرائيل مقارنة بالعلاقات الصينية-الفلسطينية. وانعكس ذلك في زيادة التبادل التجاري بين إسرائيل والصين منذ التسعينيات.
غير أن واشنطن، التي صارت تعبّر عن خشيتها من صعود الصين وما تمثله من تهديد محتمل لها، عملت على ثني إسرائيل عن بيع السلاح لبكين. وفيما تلاشت تجارة السلاح بين الطرفين عملياً مع بدايات القرن الحادي والعشرين، بقيت الهواجس الأميركية قائمة في ضوء توسع مجالات التجارة الصينية – الإسرائيلية لتشمل قطاعات أُخرى. وهذا ما نجم إلى حد كبير عن الاهتمام الصيني المتزايد بقطاع التكنولوجيا المتطوّرة في إسرائيل، واستثماراتها المتنامية فيه، وهو قطاع قابل للاستخدام المزدوج في المجالين المدني والعسكري. وواصلت واشنطن ممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل، وهو ما دفعها في سنة 2019 إلى إدخال مزيد من آليات الرقابة لضمان حماية الأمن القومي.
من الناحية الاقتصادية، ارتفعت التجارة والاستثمارات بين الصين وإسرائيل. لكن من الناحية السياسية، بقيت الصين متعاطفة مع التطلعات الفلسطينية.
منذ مطلع العقد الماضي، أضحت الصين قوة عظمى. وأصبح شي جين بينغ رئيساً للصين في سنة 2012 وتبنّى سياسة خارجية أكثر نشاطاً. وصوتت الصين إلى جانب أغلبية الدول في الأمم المتحدة، ضد إسرائيل، لمنح فلسطين في سنة 2012 وضعية دولة مراقب غير عضو، وقدم الرئيس شي جي نبينغ في سنة 2013 خطة ذات نقاط أربع أعادت التأكيد على دعم قيام دولة فلسطينية مستقلة تتعايش مع إسرائيل، وعلى كون المفاوضات هي الأساس لتحقيق هذه الأهداف ولإنجاز السلام.
عبّرت الصين عن دعمها حل الدولتين وانتقدت إسرائيل لاحتلالها ولبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة.
وشجبت بكين العنف الإسرائيلي تجاه قطاع غزة في كل الحروب من 2014 حتى طوفان الأقصى عام 2023.
وفي سنة 2017، قام الرئيس محمود عباس بزيارة بكين. وقامت القيادة الصينية بمراجعة خطتها ذات النقاط الأربع فأدرجت فيها إشارة إلى مبادرة الحزام والطريق.
خلال سنتي 2019-2020، قدمت إدارة دونالد ترامب الأميركية رؤيتها ذات الشقين لحل الصراع في إطار ما سُمي "صفقة القرن ". وانتقدت الصين خطة ترامب هذه كونها منحازة كليا لمصلحة إسرائيل وتتجاهل التطلّعات الوطنية الفلسطينية، وشدّدت الصين على ضرورة أن يرتكز أيّ حل قائم على أساس حل الدولتين على مبدأ 'الأرض مقابل السلام'. كما رفضت الصين في عام 2017 الاعتراف الأميركي بالقدس كعاصمة لإسرائيل.
بعد هجوم طوفان الأقصى الذي نفذته حركة حماس، ازدادت الانتقادات الإسرائيلية للموقف الصيني من العدوان على غزة في ظل عدم إدانة بكين لحركة حماس، ودعوتها على لسان وزارة خارجيتها الطرفين المتحاربين الى الهدوء وضبط النفس. وقد استخدمت بكين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي سوية مع روسيا على مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة يدين حماس ولا يدعو لوقف إطلاق النار. وتميز الموقف الصيني بالدعوة الدائمة إلى وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى وإدخال المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة والبدء في مفاوضات سياسية تؤدي إلى التوصل إلى حل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على كل أراضي 1967 عاصمتها القدس الشرقية.
بغد زيارة نتنياهو لبكين عام 2017، حيث أعلن عن إنشاء "شراكة شاملة للابتكار" بين الصين وإسرائيل، زادت الشركات الصينية من استثماراتها في الكيان الإسرائيلي، حيث شاركت في تحديث الموانئ وإنشاء البنية التحتية. وأصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وارتفعت التبادلات التجارية بينهما إلى 24.45 مليار دولار في عام 2022 بعد أن كانت 50 مليون دولار فقط في عام 1992.
في الخلاصة، تحكم المصالح المتبادلة العلاقة بين الصين وإسرائيل، إذ لا توجد بينهما قيم مشتركة أو علاقات تاريخية. فتل أبيب تسعى إلى تعميق علاقاتها مع الاقتصاد الصيني الذي يعد الأسرع نموًا في العالم، مما يخدم تنويع أسواق صادراتها واستثماراتها، وكذلك تشجع تدفق رأس المال الصيني إلى إسرائيل.
من جهتهم، أرادت الصين المساعدة من إسرائيل في مجالات الابتكار والبحث والتطوير وخاصة في مجال التكنولوجيات الزراعية والطبية وتحلية المياه والأمن السيبراني، وكانت بكين تسعى لتعزيز الاستثمار في البنية التحتية في إسرائيل وحضتها على الانخراط في مبادرة "الحزام والطريق".
لكن يوجد فيتو أميركي على تطور علاقات الطرفين في المجالات العسكرية والتقنية، فواشنطن تنظر إلى بكين كمنافس عالمي، وتشعر بالقلق إزاء نقل أي تكنولوجيا يمكن أن تمنح الصين تفوقاً عسكرياً. ولذا أجبرت واشنطن إسرائيل ننذ عام 2000 على إلغاء صفقات بيع نظام الرادار المحمول جوا "فالكون" إلى الجيش الصيني، وصفقة صيانة وتحديث طائرات بدون طيار باعتها تل أبيب إلى الصين. لاحقاً وصل التحفظ الأميركي إلى رفض فوز شركة صينية بعقد مدته 25 عاماً لتشغيل محطة حاويات جديدة في ميناء حيفا عام 2021، بحجة أن سفن الأسطول السادس الأميركي تزور الميناء بشكل متكرر، وأن الوجود الصيني في الميناء سيتيح مراقبة تحركات السفن الأميركية، مما يمكنه من الوصول إلى أنظمة المعلومات الموجودة على متنها.
لقد أظهرت الصين خلال العدوان على غزة موقفاً ثابتاً في دعم دعوات وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية إلى قطاع غزة.
على الرغم من بعض المصالح التجارية والاقتصادية المشتركة بين الصين والكيان الإسرائيلي، فإن هذه العلاقات هي بحت مصلحية وتخضع للإرادة الأميركية من جهة الضغط على إسرائيل، والمنفعة البراغماتية الإسرائليلية من جهة أخرى. ولا تقوم هذه العلاقات على أي أسس مبدئية وأخلاقية وقيم مشتركة ثابتة بعكس العلاقات التاريخية العربية الصينية والإسلامية الصينية، والتي تحكمها القيم المشتركة والجغرافيا والتاريخ والثقافة والمصالح، كمالا تخضع هذه العلاقات بالعموم للإرادة الأميركية. وعليه على الصين عدم الرهان على العلاقة بالكيان الإسرائيلي والتركيز على تطوير علاقاتها مع الدول العربية وإيران وتركيا وتعزيز دعمها للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة في دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف.