قامت اسرائيل على مبدأ واحد منذ قرار ابقائها في الشرق الاوسط، وهو مبدأ التعلّق بجيشها الذي تعتبره العمود الفقري واساس وجودها، ومن دونه يصبح زوالها امراً حتمياً. هذا ما نشأ عليه الاسرائيليون، ولذلك يحظى الجيش الاسرائيلي بمكانة خاصة لدى الاسرائيليين اينما كانوا في العالم، ويرونه منزّهاً عن كل الاخطاء، وهذا ما جعل جنودهم خارج كل القواعد والقوانين الموضوعة، ولا يمكن محاسبتهم مهما ارتكبوا من اخطاء او قاموا بمجازر او عمليات قتل، فهم "معفيّون" حكماً، ويملكون -على غرار شخصية "جايمس بوند" الهوليوديّة- "رخصة للقتل".

غالبية المسؤولين الاسرائيليين خرجوا من صفوف الجيش، لانّ خلفيتهم العسكرية تبعث على الاطمئنان بالنسبة الى الشارع، وكلما خدموا في مناصب قتالية مهمة، كانت مكانتهم ترتفع لدى شعبهم، والثقة بهم تتصاعد. لم يكن رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو غريباً عن هذه المعادلة، لا بل كان من صلبها، واكثر من استغلّها وعرف كيف يتحكم بها لتعزيز شعبيته وزيادة التأييد لقراراته ومواقفه، حتى انه كان يعمد (كغيره من القادة السابقين في الجيش الذين انتقلوا الى الحياة السياسية بعدها) الى الهروب من المشاكل الداخلية بفتح جبهات عسكريّة مع الفلسطينيين او اللبنانيين او غيرهم. وكانت هذه الخطة ناجحة جداً، وتحقق الاهداف الموضوعة بشكل باهر.

اليوم، يعيش نتنياهو اسوأ كابوس له على الاطلاق، فهو قام بما لم يكن يتجرّأ هو نفسه او ايّ احد قبله القيام به، وتعرّض للجيش الاسرائيلي وشكّك فيه، حتى انه تحدّاه لاخضاعه للقرار السياسي الصادر عن رئاسة الوزراء. كان الجميع يعتقد انّ المشكلة الاكبر لنتيناهو ستكون الدعاوى القضائية المقامة ضده، واعداد الضحايا الفلسطينيين في الحرب على غزة، وتحرك اهالي الاسرى لدى "حماس" والحركات الفلسطينية الاخرى، وتجمّع المعارضين ضدّه لاسقاطه، لكن الجميع كان على خطأ.

بات الجيش اليوم اكبر خطر يتهدّد نتنياهو، ولا يمكن معرفة السبب الذي دفع رئيس الوزراء الى مهاجمة القوات العسكريّة، والمخاطرة برمي ماضيه والصورة التي يختزنها الشعب الاسرائيلي عنه خلال خدمته العسكرية. ومن الصعب جداً، ان لم يكن من المستحيل، ان يعتقد احد ان الاسرائيليين سيفضلون شخصيّة (مهما كان اسمها) على الجيش الذي يبقى بالنسبة اليهم اساس وجودهم. هذا ما نشأوا عليه، وهذا ما تعلّموه، وهذا ما عاشوه، وليس من السهل ازالة هذه المعتقدات خلال فترة زمنيّة قصيرة. لا شكّ ان ما حصل في 7 تشرين الاول الفائت، زعزع الثقة بالجيش، كما انّ نتائج المواجهات مع حزب الله عام 2006 القت بالضبابيّة حول قدرة هذا الجيش على التفوق الميداني، وربما اعتقد نتنياهو ان هذا الامر كفيل باعطائه الافضليّة، ولكن هذا الرهان فيه الكثير من المخاطر وقد يتحوّل الى السبب المباشر لسقوطه، او اطلاق العدّ العكسي لذلك، لانّ مواقفه الاخيرة اتت بمثابة هدية غير متوقعة لخصومه السياسيين، وسيكون مفعولها لدى الشارع عكسياً بالنسبة اليه، لان انتقاد القيادة شيء وانتقاد الجيش ككل شيء آخر. فبالنسبة الى الاسرائيليين يمكن انتقاد المسؤولين العسكريين وحتى الاطاحة بهم عبر نقلهم او انهاء خدمتهم او غيره، ولكن التشكيك بالجيش لا يزال امراً لا يمكن القبول به بالنسبة اليهم، ويُعتبر تخطياً للخطوط الحمر الموضوعة منذ عقود طويلة من الزمن.

قد يجد نتنياهو نفسه امام معضلة حقيقيّة سيكون من الصعب تجاوزها ما لم يعمد سريعاً الى التراجع عن اقواله و"ترقيع" العلاقة مع الجيش بالسرعة اللازمة، والاّ فإنّ نهايته السّياسية ستكون بفضل الجيش الاسرائيلي، الذي وللسخريّة، كان السبب الرئيسي في وصوله الى اعلى المناصب في حياته السّياسية.