صحيح أنّ الجبهة اللبنانية شهدت ما يمكن وصفه بالهدوء النسبي خلال عطلة عيد الأضحى المبارك، التي اختار معها أهالي الجنوب أن يوجّهوا رسالة صمود من نوع آخر، بثباتهم على "عادة" زيارة قراهم، بالتوازي مع هدنة غير مُعلَنة مارسها "حزب الله" باعتكافه عن تنفيذ العمليات طيلة يومين، بعد أسبوع شهد على التصعيد الأعنف منذ بداية المعارك والمناوشات في الثامن من تشرين الأول، بعد يوم واحد من عملية "طوفان الأقصى".

لكنّ الصحيح أيضًا أنّ الجبهة اللبنانية بقيت في صدارة الاهتمام، في ضوء الزخم الذي تشهده منذ أيام، على وقع التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بتوسيع الحرب ضدّ "حزب الله"، وهو ما شكّل عنوان زيارة المبعوث الأميركي هاموس هوكشتاين، الذي حطّ في بيروت بعد تلّ أبيب، محمَّلاً برسائل قيل إنّها "سلبيّة"، دفعته إلى تجاوز قناعة كان قد توصّل إليها بعدم جدوى العودة، قبل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.

لكن، قبل أن تنتهي زيارة هوكشتاين، وقبل أن يحصل الوسيط الأميركي على الإجابات التي ينتظرها، كانت الأنظار تتّجه نحو زائر من نوع آخر، تجوّل على ما يبدو في سماء شمال الأراضي المحتلة، بما في ذلك حيفا، ألا وهو "الهدهد"، الذي رصد ما رصد، قبل أن يعود أدراجه من دون أن يتمّ كشفه، وفي جعبته ما عُدّ "بنك أهداف" عرضه "حزب الله" في مقطع فيديو تجاوزت مدّته تسع دقائق، بدت مليئة بالرسائل والدلالات.

قد يصحّ وصف زيارة هوكشتاين وجولة "الهدهد" على حدّ سواء، بـ"الاستطلاعيتين"، لكنّ الرسائل تبدو أبعد بكثير من "الاستطلاع"، فأيّ دلالات ومعانٍ تحمل على المستوى العملي؟ هل كانت زيارة هوكشتاين بمثابة "الإنذار النهائي"، أو "الفرصة الأخيرة" كما يحلو للبعص وصفها فعلاً؟ وهل يعزّز فيديو "الهدهد" هذا الانطباع، ويقرّب موعد المواجهة الكبرى، أم أنه على النقيض، يُبعِدها بما ينطوي عليه من رسالة "ردع" تحديدًا؟.

بالنسبة إلى زيارة المبعوث الأميركي إلى تل أبيب وبيروت، يضعها العارفون في خانة المساعي المستمرّة لمنع الانزلاق نحو حرب أخرى في المنطقة، يعتبر الأميركيون أنّها لن تفيدهم خصوصًا على أعتاب انطلاق الحملات الانتخابية الرئاسية، علمًا أنّها تأتي في سياق "حماوة غير مسبوقة" شهدتها الجبهة في الآونة الأخيرة، من دون أن يعني ذلك أنّ التسريبات التي بالغت في الحديث عن "إنذار وتهديد" كانت دقيقة وحقيقية.

في هذا السياق، يقول العارفون إنّ الرسالة التي حملها هوكشتاين كانت بضرورة "ضبط" التصعيد بصورة أو بأخرى، ولا سيما أنّ تطورات الأيام الأخيرة دقّت "جرس الإنذار" بإمكانية انزلاق الأمور إلى ما هو أخطر، في ظلّ ما بات يُعرَف بـ"التصاعد التدريجي" لحدّة المعارك، وهو تصاعد يُخشى أن يمهّد لمواجهة مدمّرة، لا يكفي أن يكون الطرفان غير راغبَين بالوصول إليها، لضمان عدم حدوثها في لحظةٍ ما من الصراع.

وإذا كانت زيارة المبعوث الأميركي ترافقت مع "رفع سقف" التهديدات الإسرائيلية إلى الحدّ الأقصى، في ضوء "المزايدات" بين المسؤولين الإسرائيليين على طريقة التعامل مع جبهة لبنان، فإنّ العارفين يضعون ذلك في خانة "الضغط" على لبنان، وعلى "حزب الله" ضمنًا، من أجل التجاوب مع الطروحات والوساطات، تجنّبًا لسيناريو الحرب التي يوحي الإسرائيليون أنّهم قاب قوسين أو أدنى من اتخاذ قرار المضيّ بها، مهما كانت العواقب.

لكنّ الثابت وفق ما يقول العارفون، أنّ هوكشتاين لم يسمع في لبنان شيئًا مختلفًا عمّا سمعه في المرّات السابقة، وهو الذي بات مقتنعًا بأنّه لن يستطيع إحراز أيّ تقدّم، قبل التوصّل إلى تسوية شاملة في غزة، علمًا أنّ هناك من يذهب إلى حدّ القول إنّ الرسالة التي أراد أن يوصلها مفادها أنّ الأميركيين "يعوّلون" على "حزب الله"، لا على إسرائيل، من أجل ضبط التصعيد، وهو ما يفسّر أساسًا حديثه عن الوضع الاقتصادي وعن غياب الأسباب الموجبة للمواجهة.

عمومًا، وبمُعزَل عن "حسن النوايا" من جانب هوكشتاين أو الإدارة الأميركية، أو عدمه في ظلّ انطباع لدى كثيرين بأنّ إسرائيل لا يمكن أن تقدم على أي عمل من دون "غطاء واشنطن"، ثمّة من يرى أنّ ردّ "حزب الله" جاء سريعًا عبر "الهدهد"، الذي أراد أن يثبّت المعادلات المُعلَنة منذ اليوم الأول حول "ترابط الجبهات"، وأن يقول مرّة أخرى: "لا نريد الحرب، لكننا جاهزون لها"، مع إضافة في غاية الأهمية: "هذا بنك أهدافنا، لمن يهمّه الأمر".

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ جولة "الهدهد" الاستطلاعيّة، بما انطوت عليه من خرق نوعيّ يكاد يكون نادرًا، تندرج في سياق "الحرب النفسية" التي يخوضها "حزب الله" في مواجهة الجيش الإسرائيلي، وهي تشكّل بحدّ ذاتها "ردًا عمليًا وقويًا" على التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ضد لبنان، لتؤكد على القدرات التكنولوجية والاستخباراتية التي يمتلكها الحزب، الذي يعرف تفاصيل المواقع الإسرائيلية "الحسّاسة" أكثر ممّا يعتقد الإسرائيليون أنفسهم.

ولعلّ مجرّد فكرة تجوّل المسيّرة التابعة للحزب، والعودة بفيديو يتخطّى تسع دقائق، من دون أن يكتشفها الرادار، يحمل بين طيّاته رسائل "نارية" أبعد ما تكون عن المهمّة "الاستطلاعية" الظاهرة لها، علمًا أنّ هذا الأمر وإن تسبّب بحالة من القلق والإرباك بين الإسرائيليين، لا يفترض أن يكون مفاجئًا، إذ سبق أن أعلن "حزب الله" منذ تشرين الثاني الماضي، عن إرساله المسيّرات الاستطلاعية إلى سماء حيفا وغيرها، ولو لم يُقابَل كلامه حينها بهذه الجدّية.

يبقى الأهمّ من كلّ ذلك، وفق ما يقول العارفون، أنّ ما أراده "حزب الله" من بثّ فيديو "الهدهد"، في حلقته الأولى ما يعني ضمنًا وجود المزيد في جعبته، بالتزامن مع زيارة هوكشتاين تحديدًا، مع العلم أنّ "الصدفة" لا مكان لها في قاموسه، هو الردّ سلفًا على كلّ الطروحات والتهديدات، بالتأكيد على المعادلات الثابتة إياها: الجبهة اللبنانية مستمرّة طالما أنّ العدوان الإسرائيلي على غزة مستمرّ، والتهويل لا ينفع، وهنا بيت القصيد.

هي رسالة "ردع" إذًا حملها "الهدهد"، في مقابل رسائل "التنبيه" الأميركية، معطوفة على رسائل "التهديد" الإسرائيلية، لكنّها رسالة ترفع بلا شكّ سقف التحدّي والمواجهة إلى الحدّ الأقصى، ما يترك الباب مشرّعًا أمام كلّ السيناريوهات، وإن بقيت بمجملها "مرتبطة" بمصير التسوية التي يُعمَل عليها في المنطقة ككلّ، والتي يبدو أن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة بانتظارها، بما في ذلك المراوحة، أو المزيد من التصعيد، وصولاً إلى ما هو أكثر من ذلك!.