يكاد الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله يكون الأهمّ، وربما "الأخطر"، منذ فتح الحزب "جبهة لبنان" في الثامن من تشرين الأول الماضي إسنادًا للشعب الفلسطيني المُحاصَر في غزة، ولعلّه استقطب الاهتمام الأوسع أيضًا في الداخل والخارج، منذ خطابه الأول الذي كسر فيه "صمت" أسابيع طويلة من الحرب، والذي ترك فيه "الكلمة الأولى والأخيرة" للميدان، في معادلة التزم بها في كلّ كلماته اللاحقة.

لكنّ المعادلة اختلفت في الخطاب الأخير الذي بدا مختلفًا في الشكل والمضمون، وهو ما عزّزه ربما توقيته الاستثنائي والدقيق، ولا سيما أنّه جاء بعد جولة من التصعيد الذي وُصِف بالأعنف على خطّ الجبهة في الجنوب، وبعد ساعات على زيارة المبعوث الأميركي هاموس هوكشتاين إلى بيروت، التي وُصِفت بـ"الإنذار الأخير"، والتي تزامنت في مفارقة أرادها "حزب الله" معبّرة، مع كشف النقاب عن طائرة "الهدهد" والمفاجآت التي حملتها.

وكما في الشكل، جاء الخطاب مختلفًا في المضمون، فهو كان الأول من نوعه لجهة "الاستفاضة" بالحديث عن الجبهة اللبنانية وحيثيّاتها وسيناريوهاتها، ومن خلاله وجّه نصر الله الرسائل في كلّ الاتجاهات، متحدّثًا عن "جهوزية غير مسبوقة" للمقاومة، على مستوى القوة البشرية والسلاح والعتاد، وملوّحًا باجتياح الجليل بوصفه "احتمالاً قائمًا"، ولم يكتفِ بذلك، بل هدّد قبرص بأنّها ستصبح "جزءًا من الحرب" إذا ما قدّمت "يد العون" لإسرائيل.

استنادًا إلى ما تقدّم، تفاوتت القراءات حدّ التضارب في مقاربة الخطاب، فهناك من أدرجه في خانة "الحرب النفسية" التي يخوضها الحزب "بتفوّق" مع الجانب الإسرائيلي، ومن اعتبر أنّ رسائل "الردع" التي انطوى عليها تبعد سيناريو الحرب الشاملة ولا تقرّبه، وهناك في المقابل، من رأى في الخطاب نموذجًا آخر لمصادرة الحزب لقرار الحرب والسلم، وتوريط اللبنانيين في صراعات كبرى، وصولاً لحدّ ضرب العلاقات مع دول لا عداوة معها!.

في المبدأ، يمكن قراءة خطاب السيد نصر الله من أكثر من زاوية، قد يكون من أهمّها ما حمله من رسائل "ردع" للجانب الإسرائيلي، وفق منطق المؤيدين لـ"حزب الله"، والمتحمّسين للحرب التي يخوضها من البوابة الجنوبية، وهي رسائل تأتي لتكمّل تلك الرسائل التي تولّت مسيّرة "الهدهد" توجيهها على الأرض، ولو اعتُبِرت في قاموس معارضي الحزب تحديدًا، في غير مكانها، ولا سيما أنّها تأتي لتضرب أساس "الوساطات" التي يصرّ الحزب على القفز فوقها.

فبحسب ما يقول المؤيّدون للحزب، ينبغي مقاربة خطاب السيد نصر الله بوصفه "رادعًا"، وهو الذي جاء ليستكمل ما بدأه "الهدهد" في هذا المجال، وأثار حالة من القلق والإرباك في الداخل الإسرائيلي، علمًا أنّ حديث الرجل عن أنّ ما نشره الإعلام الحربي للحزب لم يكن سوى "دقائق قليلة من ساعات طويلة" في حوزته، جاء ليؤكد أنّ في جعبة الحزب الكثير ممّا يفترض أن يجعل الإسرائيلي يفكّر أكثر من مرّتين قبل الإقدام على أيّ هجوم ضد لبنان.

وإذا كان نصر الله، و"الهدهد" قبله، أرادا التأكيد على القدرات التكنولوجية والاستخباراتية لدى "حزب الله"، الذي يمتلك من المعلومات عن المواقع "الحسّاسة" في المستوطنات ما لا يعرفه ربما بعض الإسرائيليين، فإنّ حديثه عن أنّ قوة المقاومة حاليًا "لم يسبق لها مثيل"، يأتي ليؤكد على "التفوّق"، وفق المؤيدين، الذين يلفتون إلى أنّ الحزب جدّد التأكيد على المعادلة إياها: "لا نريد الحرب، لكننا جاهزون لها، ولدينا أكثر ممّا نحتاجه لخوضها، ولو استمرّت أشهرًا".

ومع أنّ المؤيّدين لـ"حزب الله" يعتبرون أنّ الرسائل التي انطوت على الخطاب يفترض أن "تريح" خصوم الحزب، من الرافضين للحرب، باعتبار أنّ ما تضمّنه الخطاب يفترض أن "يردع العدو" وليس العكس، فإنّ هذا الرأي لا يجد صداه لدى الخصوم، الذين يعتبرون أنّ مثل هذا الرهان ليس في مكانه، ليس فقط انطلاقًا من تجربة حرب تموز التي خاب معها رهان الحزب، ما دفعه لإطلاق معادلة "لو كنت أعلم"، ولكن أيضًا بالنظر إلى ما يجري في غزة اليوم.

ويقول المعارضون إنّ المشكلة الأساسية في رسائل "القوة" التي يوجّهها "حزب الله" عبر أمينه العام، أنّها تأتي بالدرجة الأولى لتضرب محاولات الوساطة التي يقودها الأميركيون، الذين لا يخفى على أحد أنّ لا مصلحة لهم في اندلاع الحرب على أعتاب الحملات الانتخابية الرئاسية، ولا سيما أنّ الحزب لا يزال مصرًا على نظرية "ترابط الساحات"، ويرفض أيّ تفاوض قبل وقف إطلاق النار في غزة، ما يشرّع الباب أمام حرب شاملة لا يتحمّلها اللبنانيون.

وإلى جانب الرسائل الموجّهة للجانب الإسرائيلي والتأكيد على قوة المقاومة واستعدادها لخوض الحرب إذا ما فُرِضت على لبنان، من دون ضوابط أو أسقف، تأتي الجزئية المتعلقة بقبرص لتعمّق الانقسام أكثر فأكثر، حيث يبرّرها المؤيّدون للحزب بوجود "هواجس مشروعة" لديه تطلبت "وضع النقاط على الحروف"، فيما يرى المعارضون أنّها شكّلت تجاوزًا للخطوط الحمراء، ليكرّس الحزب نفسه مرّة أخرى من خلالها "فوق كلّ السلطات"، وهنا المشكلة الكبرى.

في هذا السياق، يقول المؤيّدون للحزب إنّ عوامل عدّة دفعت إلى توجيه الأمين العام لـ"حزب الله" لمثل هذا التهديد المباشر لقبرص، وهي ترتبط ببعض المعطيات والوقائع الميدانية، بعيدًا عن المواقف "الانفعالية" للبعض، علمًا أنّ هؤلاء يتحدّثون عن "مبالغة" في ردود الفعل، باعتبار أن نصر الله لم يفتح "الجبهة" مع قبرص كما أوحى البعض، ولكنّه قال ببساطة إنّها في حال وقفت إلى جانب إسرائيل إذا ما اندلعت الحرب، فستكون عندها جزءًا من هذه الحرب.

بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ ما دفع الرجل إلى إطلاق هذا التحذير أو التنبيه إن جاز التعبير، هو وجود علامات استفهام حقيقية من موقف قبرص، التي تُعتبَر "ساحة مريبة" لـ"حزب الله"، ليس فقط في ضوء العلاقات "الممتازة" التي تربطها بإسرائيل، ولكن أيضًا في ضوء التمارين والتدريبات المشتركة التي تجري على الأراضي القبرصية بين الفينة والأخرى، وبعضها يحاكي صراحةً "حربًا ضد لبنان"، وحتى حربًا أشمل ضدّ إيران.

وإذا كان هؤلاء يعتبرون أنّ الردود القبرصية الرسمية جاءت أكثر "عقلانية" من بعض الردود الداخلية، ولو أنّ كلام نصر الله وُصِف بـ"غير اللطيف" في مكانٍ ما، فإنّ خصوم الحزب يعتبرون أنّ الأخير من خلال مخاطبته قبرص بهذا الشكل وبهذه النبرة تجاوز كلّ الحدود والضوابط، ولا سيما أنّ قبرص ليست إسرائيل، وهي دولة تربطها علاقات دبلوماسية مع لبنان، بمعزل عن موقف الحزب منها، أو "ريبته" من بعض نشاطاتها.

أكثر من ذلك، يشير هؤلاء إلى أنّ افتراض "حسن النوايا" كان يتطلب من الحزب معالجة من نوع آخر، كأن يتمّ إيصال الرسالة إلى قبرص بطريقة "ملطفة" وعبر القنوات الدبلوماسية، أي من خلال الحكومة التي يمون عليها "حزب الله" أساسًا، لكنّ ما حصل كرّس "صورة نمطية" يدّعي الحزب محاربتها، فإذا به لا يكتفي بفتح الجبهة ضد "العدو" من تلقاء ذاته ونيابة عن اللبنانيين، بل يفتح معركة دبلوماسية مع دولة "غير عدوة"، من دون استشارة أحد.

لعلّ الانقسام في قراءة خطاب نصر الله يختصر بين طيّاته الانقسام اللبناني العميق في مقاربة كلّ شيء، من فتح الجبهة اللبنانية، إلى المعارك اليومية على خطّها، مرورًا بالحرب النفسية التي يتحمّس لها البعض ويخشى البعض الآخر من تبعاتها غير المحسوبة. لكنّ هذا الانقسام ينذر بما هو "أخطر"، إذا ما فُرِضت الحرب على لبنان فعلاً، لأنّ جهوزية "حزب الله" للمواجهة حصرًا، قد لا تكون كافية، بغياب الحصانة المطلوبة وطنيًا واجتماعيًا!.