كتَب المناضل في عهد الانتداب الفرنسي، والدبلوماسي، والشاعر اللبناني الكبير يوسف السودا في عشرينيات القرن المنصرم، قصيدة يقول فيها: "لنا على الأرض لبنانان إثنان" في إشارة منه الى ان لبنان الثاني هو المنتشر حول العالم، يوم راح اللبنانيون ينتزعون حقّ الحياة الكريمة منذ منتصف القرن التاسع عشر. اما لبنان الأول فهو المقيم الرازح تحت مظالم الحكم العثماني، ثم الانتداب الفرنسي. لكنْ عندما أحبط الانتداب الفرنسيّ فتحَ مرفأ جونية للتجارة الدوليّة، بسبب "المصالح الفرنسية والمحليّة"، وجاراه بعضُ المنتفعين من اللبنانيّين، أيقن السودا عندئذٍ أن لبنان مقسّم الى ثلاثة: لبنان المقيم، ولبنان المهاجر، ولبنان المستفيد.

وبعد مئة عام، نترحّم اليوم على ذاك "اللبنان" المقسّم الى ثلاثة، لأنه أصبح في حاضرنا مجموعة شعوب تعيش وتتصارع في وطن لكل منها لبنانها الخاص، مطبّقة قول جبران خليل جبران : "ويل لأمّة مقسّمة الى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه أمّة".

بعد مئة عام على تأسيس دولة لبنان الكبير، ما زال اللبناني المهاجر هو المَصرِف الخارجي الذي يدعم وجود المُقيم بفِلس الاغتراب، كي يؤمّن بقاءَهُ في الوطن. أمّا اللبناني المستفيد، فهو تلك الطبقة الحاكمة اللاهثة وراء المناصب الحكومية، وأبرزُها "الكرسي" اللعين الذي أسقط عن نفسه وقارَ السلطة الأولى، عندما سمحَ لكلِّ "ما يُرى وما لا يُرى" أن يتدخّل في شؤونه، ويرسم سياسته الداخلية والقومية والخارجية.

وبعد عدة محاولات فاشلة للثورة على الوضع القائم، تحوّل اللبناني الى أمثولة للدول في كيفية العيش في دولةٍ مشرذمة، من دون رئيس ولا حكومة، ولا مَن يعاتب او يواجه الفساد المستشري في شرايين المؤسسات الحكومية، وأصبح الرقمَ الأول في دفن التاريخ.

دفنَ اللبناني كل نضالات رجالِه، الذين ضحَّوا في سبيل إقامةِ دولة، ولم يستفِد من دروس الحرب اللبنانية، لا بل راح ينادي بالتقسيم، وكأن لبنان يوازي مساحة كندا! دَفن كلَّ مدَّخَراته في المصارف وتقبّل التعازي عليها، ولم يستطع اتّهام من قضى على جنى عمره، وتواطأ مع كل الطبقات الحاكمة، في مؤامرة موصوفة، فهَدَروا جميعاً أمواله وأموال الدَّين العام. كذلك دفنَ اللبناني انفجار مرفأ بيروت، الثاني دماراً بعد كارثة هيروشيما؛ حادثتان جسيمتان، لو حصلت إحداهما في دولة ذات سيادة وقانون، لامتلأت السجون من عائلات الطبقات الحاكمة. ولكنّ اللبناني فضّل مغادرة البلاد بدل البقاء فيه والثورة على الطغيان الداخلي، مفسحاً، بذلك، المجال لاستيطان الغرباء فيه.

أصبحت الهجرة الحلّ الوحيد للبناني، فغادر في العام الماضي أكثرُ من 175 ألف شابّ متعلّم الى الخارج، وأصبح الشّتات اللبناني على وسع الكرة الأرضية حتى وصل الى الدول التي لم يكن يسمع بها مثل بيليز وجزر الناورو.

وإذا بحثنا في فصائل لبنان الحالي، لوجدنا انه مقسوم عامودياً: من شعب يعيش الهرج والمرج والمهرجانات الليلية والفنون المختلفة، الى شعب يدفن كل يوم أحد أفراد عائلته ويصلّي كي يحيد الصاروخ عن سقف منزله. لبنانٌ يقاوم الحياة بالرقص والتّرَف، وآخر يقاوم بوجه عدوّ يهدد يومياً باجتياح لبنان، على الرغم من النداءات الدولية بوجوب وقف الحرب والعودة الى الحوار.

اما الحكومة فلها عدة "لبنانات". لها في كل وزارة أكثر من لبنان! وبات الاجتماع الوزاري فولكلوراً إداريًّا لعرض الأحداث ومناقشتها دون الإصلاح، لأنّ العين "بصيرة وميزانية الدولة قصيرة"... والشعب عَ الله.

هذا في الداخل اللبناني. اما في السياسة الخارجية، فكلٌّ يغني على ليلاه. يشكل بعض أعضاء مجلس النواب وفوداً تزور، من حينٍ إلى آخر، عواصم القرار وتبحث في تنفيذ القرارات الدوليّة، من دون المرور بوزارة الخارجيّة المولَجة التعاطي مع العلاقات الخارجيّة. فمن واشنطن الى نيويورك الأمم المتحدة، فوجئ بالأمس أعضاءُ البعثة اللبنانية برؤية الوفد النيابي داخل المنظمة الدوليّة، مستريحاً في قاعة الخروج في المنظمة، بعد اجتماعه بالسيدة روز ماري دي كارلو، وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية "فاشخاً" فوق وزارة الخارجيّة، طالباً الدعم في تنفيذ 1701 من مسؤولة أممية تعجز عن إدخال علبة حليب لطفل رضيع في غزة!.

أسوأ ما في الوضع هو أنّ الأحزاب اللبنانيّة التي لا تحصى منقسمة الى فئتَين، بين فريقَي 8 و14: أولى تناصر سوريا وتعادي إسرائيل، والثانية تعادي سوريا وليس لها مشكلة مع اسرائيل-ولو لم تجاهر بذلك. ويحتار المواطن اللبناني في تحديد من هي الدولة العدو ومن هي الصديق.

بحرُه، قُسِّمتْ حقول الغاز فيه بينه وبين اسرائيل، من دون الاستماع الى الخبراء اللبنانيين، فأُعطيَتْ اسرائيل حقل الغاز "كاريش" المؤكد، واستُبقِيَ له الحقل المحتمل أن يكون فيه غاز. أما برُّه فقد أصبح طرقاتٍ مُشرعة، لنازحٍ أو لمهرّبٍ أو لعناصرَ متطرفة مسلّحة، على الرغم من وجود أبراج الجيش اللبناني المراقبة، التي من شأنها ضبط الحدود ووقف التهريب، حتى ان هذه الأبراج جوبهت برفض حزب الله معتبراً انها شُيّدت من أجل مراقبته... ولم تتمكن القوى الأمنية الحاكمة على الأرض حتى اليوم من إرساء استراتيجية دفاعيّة جدية، على الرغم من دائرة الحرب التي وقع فيها لبنان.

في الداخل، فساد المؤسسات على امتداد مساحة الوطن، حيث تُستعمل الأدوات التي حفظها اللبناني من العثماني: "برطيل" وتزوير وما الى هنالك... ولم ينجح عهد رئاسي منذ الخمسينيات إلى اليوم في ضبط المؤسسات الحكومية والدوائر الرسمية. وإذا سألت عن السبب، يقول اللبناني: "هيدا لبنان... شطارة".

بلد التناقض، جعل من نفسه، وهو من بين الأصغر عربياً، ساحة للفساد الداخلي والصراع الخارجي، منذ القرون الماضية. وخير مثال على ذلك، المتصرّف واصا باشا، الذي بدأ عهده بشكل جيّد وحقق انجازات مهمة في متصرفية جبل لبنان، لكنه انهى سنواته الأخيرة في السلطة بالرشوة والفساد والفوضى عام 1883، وترك نظريّة يخبرها اللبناني حتى اليوم حين قال: "ثلاثة أخطار تهدد لبنان، الطائفية، والسياسة والماعز لأنها تأكل الأخضر واليابس"؛ هذا قبل ظهور الماعز البشري!.

هكذا هو اللبناني، لم ينجح حتى اليوم في بناء دولة، وبقي يتّكل على الدول الصديقة والدول العظمى لكي تسمّي رئيساً له بعد استكمال برامجها. وبقيت النكايات السياسية حاكمة المواقف. وإلى الآن، لم يدرك اللبناني "النقّاق"، بالحكي وليس بالفعل، ان تغيير هذا الطقم الحاكم والدخول في دولة نامية لن يحصل الا في صندوق الاقتراع.

اما "لبنان الحقيقي اللي جايي"، كما تقول السيدة فيروز، فهو لبنان الـ25 بالمئة من مواطنيه، الذين سكتوا ولم يقترعوا في الانتخابات، لأنهم يئسوا من التغيير بسبب القانون الانتخابي المصمَّم على قياس الطبقة الحاكمة؛ هذا اللبنان لا بد له ان يتكلّم... وعلى امتداد الوطن.

سمر نادر

الأمم المتحدة-نيويورك