تَتَباهى قُبرصُ أنَّ لبنانَ مُؤَسِّسُها!
وَفي عِلمِ الأنتروبولوجيا الغاديَ عِلمَ الغَيرِيَّةِ (alterity) التأسيسُ مَنبِتُ إحتِرامِ وجودِ الآخَرَ المُغايِرَ، وأبرَزُ تَجَلِّياتِهِ العَلاقَةُ بَينَ لبنانَ وَقُبرُصَ. وَهي إنطَلَقَت وَنَمَت عَمارَةً حَضارِيَّةً مِنَ الـTotem أيِّ الرُموزِ الإيمانِيَّةِ والطُقوسِيَّةِ الى الـMana وَقَصدُهُ الإجلالُ لِلقانونِ الأخلاقِيِّ.
وَتُشيرُ بَعضُ الحَفرِيَّاتِ، وَمِنها في مَوقِعِ Choirokoitia Χοιροκοιτ، إلى أنَّ الجَزيرَةَ قَصَدَها لُبنانِيُّونَ-فينيقِيُّونَ مُنذُ العَصرِ المُسَمَّىPPNB ما قَبلَ الفُخَّارِيِّ بي. وَبَنوا فيها مَنازِلَ مُستَديرَةً بأرضِيَّاتٍ مِنَ الجيرِ المُحتَرِقِ (كَما في مُستَوطَنَتَي اندريا-كاستروسَ وَChlóraka Χλώρακα)، على غِرارِ الكانَت قائِمَةً في بيبلوسَ، وَحَفَروا غَربَها آبارَ مِياهٍ على نَسَقِ بِداياتِ صورَ وَصَيدا وَنَواحيهِما.
وَفي العَصرِ البرونزِيِّ شَيَّدوا المُدُنَ مِثلَ إنكومي، وِفقَ مُخَطَّط هَندَسِيٍّ أرسَت قَواعِدَ تَنظِيمِهِ المُدُنِيِّ بيبلوسُ عَينُها، قِوامُهُ شَبَكةٌ مُستَطِيلَةٌ تَتَوافَقُ فيها بَوَّاباتُ المَدينَةِ مَعَ مَحاوِرِها والعَديدِ مِنَ المَبانِيَ الكُبرى المُشَيَّدَةِ مِن حَجَرِ أشلارَ المُرَبَّعِ. وَتَحتَوي بَعضُ هَذِهِ المَبانِيَ على مَرافِقَ لِمُعالَجَةِ وَتَخزينِ زَيتِ الزَيتونَ، كَما مَبنى ماروني-فورنيسَ والمَبنى X في كالافاسوسَ-أيوسَ دِمِيتريوسَ. وَأقاموا الهَياكِلَ لِلثالوثِ الفينيقيِّ-الُلبنانِيِّ: الإلَهُ الأبُ، والِإلَهَةُ الأُمُّ، والِإلَهُ الإبنُ، في ميرتو-بيغِلديسَ، وَكيتيونَ وَكوكلِيا (بالاي-بافوسَ). وَجَعَلوا مِن إنكومي (قُربَ فاماغوستا الحالِيَّةِ) العاصِمَةَ الروحِيَّةَ لِلمُدُنِ-الدُولِ التي أرسوها، على غِرارِ بيبلوسَ أيضاً، مُطلِقينَ إسمَها على الجَزيرَةِ: Έγκωμη Enkomi.
وإذ لَجأ الإغريقُ إلَيها بَعدَ حَربِ طِروادَةَ، في القَرنِ الثانيَ عَشَرَ قَبلَ الميلادِ، (والتي يُشَكِّكُ بِحُصولِها تاريخِيَّاً السِياسِيُّ-الإستراتِيجِيُّ Θουκυδίδης-توسيديدُ، والمؤَرِّخ هيرودوتُ، مُكَتفِيينِ ببُعدِها الأُسطورِيِّ)، فإنَّهُمُ إعتَمَدوا تَسمَيَتَها Kupros Κύπρος وَتَعني في الفينيقِيَّةِ والإغريقِيَّةِ النُحاسَ، تَقديراً لِلفينيقِيِّينَ-الُلبنانِيِّينَ الكَانوا بَدأوا بِتَعدينِهِ المُمَنهَجِ وَتَداولِهِ على نِطاقٍ واسِعٍ فيها.
هو تأسِيسُ الإرادَةِ المُوَجَّهَةِ الى السُلوكِ، على قاعِدَةِ المَوروثُ الصارِمِ مِنَ "الأنا الأعلى"، وِفقَ العِلمِ الأنتروبولوجِيِّ المُحَدِّدِ لِقيمَةِ الإنتِماءِ الحُرِّ في تاريخِ الشُعوبِ.
أسَسِيَّةُ بَقاءٍ
مِنَ الإغريقِ، فالرومانِ، فالبيزَنطِيِّينَ، فالعَرَبِ، فالفَرَنجَةِ، فَتُجَّارِ البُندُقِيَّةِ، فالعُثمانِيِّينَ وَخُلَفائِهِمِ، فالبَريطانِيِّينَ... الى التَهديدِ الأخيرِ لَها، الجَزيرَةُ الطالِعَةُ مِن لبنانَ، والناسِبَةُ عِلَّةَ وجودِها إلَيهِ، تَجهَدُ في تَكثيفِ مُعطاها الإنسانِيِّ وَمُكابَدَةِ الإلغاءِ والتَدميرِ المُتهالَكِ عَلَيها، لِكَي لا تُصادَرَ حَقيقَتُها... لِكَي لا تُنسَفَ أسَسِيَّةُ بَقائِها.
هي أرادَت أن تَبقى، على صورَةِ لبنانَ وَمِثالِهِ، نَموذَجاً لِكَينونَةٍ إنسانِيَّةٍ مُتَجَلِّيَةٍ، مِن وَفي، واقِعٍ مُنعَتِقٍ مِن فَرَضِياتَ سَليبَةٍ وَمُسَلَّماتٍ مَفروضَةٍ مِن خارِجِهِ.
هي أرادَت أن تَعلوَ، على مِثالِ لبنانَ وَصورَتِهِ، جَوهَر إبداعه تِجاهَ الأبَدِ وَلَهُ.
وَها الشاهد مَقبِضُ رُمحٍ مَحفورٌ عَلَيهِ بالفينيقِيَّةِ نِذرُ-تَقدِمَةٍ في هَيكَلِΙδάλιον Idalion الفينيقِيِّ (ناحِيَةَ لارنَكا حالِياً)، لأُوزيبَعلَ مَلِكِ كيتيونَ وإيداليونَ، بِن بَعلِ-ميلكَ مَلِكِ كيتيونَ: "... هذا النَقشُ بالعِباراتِ الحالِيَةِ، أودَعَهُ المَلِكُ والمَدينَةُ بأسرِها الإلَهَةَ شَفيعَةَ إيداليونَ وَنَواحيها، مَعَ القَسَمِ على عَدَمِ خَرقِ مواثَقَةَ راياتِ السَلامِ، إلى الأَبَدِ..."
أهوَ نَذرٌ-رِسالَةٌ؟ بَل عَهدٌ قِوامُهُ السَلامُ، خُلِّدَ على آلَةِ حَربٍ، تَوكيداً أنَّ الخَليقَةَ وجِدَت لِلبَقاءِ لا لِلفَناءِ. في هَذِهِ الشَذرَةٍ، وَمِنها، وَعيُ وِحدَةِ الإنسانِيَّةِ المَصيرِيَّةِ بَينَ الأنا والكَينونَةِ، وَتَكريسُها في التَناميَ بالحَقيقَةِ... أبعَدَ وأقوى وأفعَلَ مِنَ السُقوطِ في الإزدِواجِيَّةِ الإغريقِيَّةِ وَلَواحِقِها، المُقَسِّمَةِ الخَلقَ الى روحٍ وَمَادَّةٍ تَتَصارَعانِ بَينَ آلِهَةٍ وأشباهِ آلِهَةٍ، أبطالٍ وَأنصافِ أبطالٍ... مِن وَهمٍ، وَعَلَيهِمِ.
قُلّ: في إنتِشاءِ الفَيضِ.
تِلكَ لبنانُ المُتَمَركِزُ مِن ذاتِهِ، تَطَهُّراً خَلاصِيَّاً، لَهُ وَلِلآخَرينَ.