قد يكون المقال الذي نشرته صحيفة "التلغراف" البريطانية، وتحدّثت فيه عن وجود مخازن أسلحة وصواريخ لـ"حزب الله" في مطار بيروت الدولي، ونسبت فيه إلى أحد العمال في المطار من دون تسميته، وجود "صناديق كبيرة غامضة تصل على متن رحلات جوية مباشرة من إيران"، قرع مرّة أخرى "جرس الإنذار" من احتمال انزلاق الأمور إلى "مجهول" قد تمثّله حرب إسرائيلية شاملة ضدّ لبنان، يكثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة.

وإذا كانت السلطات الرسمية استنفرت سريعًا، للتعامل مع التقرير الصحفي الذي وُصِف بـ"الخطير"، عبر دعوة السفراء والدبلوماسيين والإعلاميين إلى جولة في مطار بيروت، الذي سيبقى "مفتوحًا" لمن يرغب من السفراء، فإنّ التقرير شكّل في مكانٍ ما برأي كثيرين، حلقة أخرى من حلقات الحرب النفسية المتصاعدة بين لبنان وإسرائيل، والتي أخذت أشكالاً متعدّدة ومستويات تكاد تكون غير مسبوقة خلال الأيام القليلة الماضية فقط.

في هذا السياق، تبرز التقارير الأجنبية التي تتكثّف حول بدء العدّ العكسي للمواجهة الكبرى بين "حزب الله" وإسرائيل، ومنها ما يلمّح إلى استعدادات إسرائيلية لإعلان انتهاء الحرب على غزة بشكلها الحاليّ، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة ثالثة تتيح "التفرّغ" لعملية عسكرية واسعة ضدّ لبنان، ومنها ما يشير إلى "ضوء أخضر" أميركي وصل إلى تل أبيب، من خلال تأكيد مسؤولين أميركيين بأنّ إدارة الرئيس جو بايدن ستقف إلى جانبها في حال اندلاع الحرب.

من جهته، يخوض "حزب الله" حربه النفسية الخاصة في المواجهة، عبر اعتماده "تكتيك" الفيديوهات، إلى جانب العمليات العسكرية، وآخرها فيديو "لمن يهمّه الأمر" الذي وثّق من خلاله المزيد من المواقع الإسرائيلية الحيوية التي ستشكّل "بنك أهدافه" في حال الحرب التي تُقرَع طبولها، ما يطرح السؤال إياه مجدّدًا، فهل تقطع "الحرب النفسية" الباب على الحرب الشاملة التي يخشاها كثيرون، أم أنّها على العكس، تُعتبَر بمثابة "توطئة" لها؟.

في المبدأ، يضع العارفون أجواء الحرب النفسية المتصاعدة في سياق التصعيد الإسرائيلي المتدرّج، باعتبار أنّ تلّ أبيب مصرّة على وجوب حلّ ما تصفه بـ"مأزق الشمال" في أقرب وقت ممكن، ومن دون أيّ ربط مع غزة، وهي تحاول القول لـ"حزب الله" إنّ استمراره على تصلّبه في الموقف سيؤدي إلى الذهاب تلقائيًا للحرب العسكرية الشاملة، خصوصًا بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة التي قادها المبعوث الأميركي هاموس هوكشتاين.

بحسب هؤلاء، فإنّ الرسائل التي تتوخّى تل أبيب إرسالها من تهديداتها المتصاعدة تفيد بأنّ عدم التجاوب مع طروحات هوكشتاين، والإصرار على إقفال الباب على المفاوضات قبل التوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، يعني الذهاب إلى سيناريو الحرب الشاملة، وربما "استنساخ" نموذج غزة في لبنان، وهو ما قد لا يكون سهلاً على الحزب استيعابه، في ظلّ الواقع اللبناني الصعب اقتصاديًا واجتماعيًا، وغياب الحصانة الوطنية المطلوبة في حالة الحرب.

وحتى لا تبقى التهديدات "في الهواء"، إن جاز التعبير، تلجأ إسرائيل إلى رفع السقف من خلال تسريبات صحفية تلمّح إلى بدء العدّ العكسي للعملية العسكرية ضدّ لبنان، ويندرج في هذا السياق الحديث عن نيّة إسرائيلية بإعلان انتهاء المعارك بشكلها الحالي في غزة، من أجل الانتقال إلى جبهة لبنان، مع التأكيد دائمًا على ضرورة التوصّل إلى حلّ جذري، ينهي الأزمة الناجمة عن الهجرة القسرية لسكان المستوطنات الشمالية، الذين يرفضون العودة إلى بيوتهم قبل ذلك.

ولعلّ التسريب "الأخطر" يبقى ذلك الذي نسبته قناة "CNN" إلى مسؤولين أميركيين، قالت إنّهم أبلغوا وفدًا من كبار المسؤولين الإسرائيليين مؤخرًا بأنّ الإدارة الأميركية الحالية "مستعدّة تمامًا" لدعم تل أبيب في حال اندلاع الحرب مع "حزب الله"، وذلك على الرغم من كلّ ما يُحكى عن "فيتو" أميركي على مثل هذه الحرب على عتبة حملات الانتخابات الرئاسية، وفي ضوء ما يُحكى أيضًا عن "توتر" بين الجانبين وعن تراجع إمدادات الأسلحة.

على مستوى الحرب النفسية، لكن من جهة "حزب الله"، تبرز أيضًا الفيديوهات التي يبثّها الأخير ويتوخّى من خلالها تكريس معادلة "الردع" بالأدلة والبراهين، مع تأكيد الجهوزية الكاملة لخوض الحرب إذا ما فُرِضت عليه من دون أيّ ضوابط أو أسقف، علمًا أنّ الرسائل التي تنطوي على هذه الفيديوهات تحمل الكثير من الدلالات حول القدرات التكنولوجية والاستخباراتية التي يتمتع بها، وإن تفاوتت التقديرات حول ما إذا كانت كافية لتجنّب الحرب عمليًا.

بهذا المعنى، جاء الفيديو الأخير الذي بثّه الحزب في عطلة نهاية الأسبوع، تحت عنوان "لمن يهمّه الأمر" ليكمّل الرسائل التي أطلقها فيديو "الهدهد" الشهير، وأكد عليها الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، ولا سيما لجهة امتلاك الحزب لما يمكن اعتباره "بنك أهداف" كاملاً في حال اندلاع المواجهة، وهو ما يتمثّل بالإحداثيات التي يعرضها في فيديوهاته، والتي تولى الإعلام الإسرائيلي الكشف عن بعض تفاصيلها وحيثيّاتها.

ولعلّ اللافت في فيديو "لمن يهمّه الأمر" أنّه أقرن صور المواقع الإسرائيلية التي التقطتها طائرة مسيّرة تابعة له، ببعض الرسائل السياسية التي سبق أن أطلقها السيد نصر الله، والتي تندرج مباشرة في خانة "الحرب النفسية"، سواء لجهة التأكيد على جهوزية المقاومة للقتال "بلا ضوابط وبلا قواعد وبلا أسقف"، أو لجهة الرسالة الختامية التي شكّلت "بيت قصيد" الفيديو ربما، وعنوانها "من يفكّر بالحرب معنا سيندم".

وإذا كانت فيديوهات الحزب تتوخّى "الردع" بحسب ما يقول العارفون بأدبيّاته، ولا سيما أنّها تؤكد على أنّ الحرب معه لن تكون "نزهة"، وأنّه جاهز لخوضها متى فُرضت عليه، وقد أعدّ لها جيّدًا، وصولاً لحدّ تهديد بنك أهدافه فيها، فإنّ ثمّة علامات استفهام تُطرَح عمّا إذا كان ذلك كافيًا لقطع الطريق على الحرب، في ظلّ وجود وجهة نظر أخرى، تعتبر أنّ هذه الفيديوهات تزيد من "إحراج" إسرائيل، ما يمكن أن يدفعها لردّة فعل "معاكسة"، ولو كانت "مجنونة".

هكذا، تبقى كلّ السيناريوهات والاحتمالات مفتوحة، على وقع تصاعد "الحرب النفسية" بين إسرائيل و"حزب الله"، حرب نفسية تشرَّع معها كلّ الأسلحة، بما فيها "الإشاعات" التي يندرج ضمنها مقال "التلغراف" الذي ينطوي على رسائل تهديدية في غاية الخطورة، ويضع مطار بيروت في قلب "الاستهداف"، ما يزيد الشكوك حول "الخاتمة المحتملة" لهذه الحرب، التي تبدو استثنائية في كلّ شيء، ولا تشبه غيرها بالمُطلَق!.