فيما يستمرّ الاهتمام منصبًّا على التطورات الميدانية على خطّ الجبهة الجنوبية، في ظلّ وصول قرع طبول الحرب إلى ذروته، مع تبادل كلّ من "حزب الله" والجيش الإسرائيلي بنك الأهداف الخاص بكلّ منهما في حال اندلاع المواجهة الكبرى، خرقت زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين الجمود السياسي القائم في البلاد، الذي أضحى معه استحقاق الانتخابات الرئاسية ثانويًا، بل هامشيًا إلى حدّ بعيد.

لكنّ الزيارة التي أريد منها أن تكون "محاولة للمساعدة بحلّ أزمة لبنان المتمثّلة بعدم انتخاب رئيس للجمهورية"، وفق ما قال الكاردينال بارولين نفسه خلال "اللقاء العائلي" الذي دعت إليه بكركي، لم تنجح في إحداث "الخرق المرجوّ"، أقلّه في لقاء بكركي الذي اصطدم بـ"مقاطعة مزدوجة"، من المكوّن الشيعي الذي غاب "احتجاجًا" على مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي، ولكن أيضًا من بعض الأقطاب المسيحيّين.

فعلى الرغم من أهمية اللقاء المفترضة، مسيحيًا ووطنيًا، كان لافتًا غياب كلّ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل، وهو ما فُهِم بدوره "رسالة مبطنة" رافضة لأيّ "لقاء جامع" يمكن أن يأخذ شكل "الحوار"، كان الموفَد الفاتيكانيّ يرغب بتحقيقه بين الأقطاب الموارنة، وتحديدًا بين جعجع والجميل ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، ورئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية.

وإذا كان اقتصار المناسبة على "لقاء عائلي" لا ترجمة سياسية له، أعاد إلى الأذهان مبادرة بكركي الشهيرة، التي تحوّلت إلى مجرّد "لقاء صلاة وتأمّل" قبل أشهر طويلة، فإنّه لم يحجب العديد من علامات الاستفهام التي طُرِحت عن معاني ودلالات الزيارة، وعن الهواجس التي تدفع الفاتيكان للتحرّك في هذا التوقيت بالتحديد، وعمّن يتحمّل مسؤولية "إفشال" هذا المسعى، تمامًا ككلّ المساعي والوساطات والمبادرات السابقة.

في المبدأ، وبمعزل عن بعض التفاصيل والكواليس المرتبطة بـ"اللقاء العائلي" الذي عقد في بكركي، يؤكد العارفون أنّ زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان تكتسب أهمية استثنائية في هذه المرحلة، وهي تعكس في جانبٍ منها، الاهتمام الذي لطالما حظي به لبنان بالنسبة إلى الفاتيكان، وهو ما نقله الكاردينال بارولين لمن التقاهم عن "قلق" البابا فرنسيس لاستمرار الفراغ الرئاسي، وعدم انتخاب رئيس للجمهورية منذ تشرين الأول 2022.

وتأتي أهمية الزيارة، في الشكل قبل المضمون، من حيث التوقيت أولاً، في ظلّ الأجواء "الحربيّة" التي تعيشها البلاد هذه الأيام، مع تصاعد المخاوف من انزلاق البلاد إلى مجهولٍ ما، وعلى وقع الانقسام العموديّ المستمرّ، والذي يجد خير ترجمة له على خط الرئاسة، لتؤكد على قلق الحاضرة الفاتيكانية من استمرار الأمور على مراوحتها، ولا سيما أنّ الفراغ في رئاسة الجمهورية لا يمكن أن يكون أمرًا عاديًا أو طبيعيًا في أيّ دولة مستقلّة.

وفي هذا الجانب، تؤكد الزيارة أنّ لبنان ليس متروكًا، وأنّه يحظى برعاية خاصة من الفاتيكان، للكثير من الأسباب والاعتبارات، من بينها ربما أنّه يشكّل "ثقل" الوجود المسيحي في المنطقة، وهو ما يريد الفاتيكان الحفاظ عليه وعدم التفريط به، لكنّها تؤكد أيضًا أنّ الفاتيكان لا يتعامل مع لبنان خارج الأطر الرسمية، وهو يرفض التدخّل في شؤونه الداخلية، بعيدًا عن دور الإرشاد والنصح، ولذلك تكتسب اللقاءات الرسمية التي عقدها الموفد الفاتيكاني أهمية خاصة.

من هنا، يلفت العارفون إلى أنّ الاهتمام الفاتيكاني بلبنان الذي عكسته الزيارة بشكل واضح، وبكلّ الحفاوة التي رافقتها، لا يكفي، إذا لم يقترن بإرادة فعلية لدى الأفرقاء المعنيّين بالالتزام بالدستور وانتخاب الرئيس، علمًا أنّ مقاطعة "اللقاء العائلي" لم تترك انطباعًا إيجابيًا في هذا الصدد، بل هي طرحت علامات استفهام عن مدى قدرة الفاتيكان على تحقيق أيّ خرق، إذا لم يبادر اللبنانيون لذلك في المقام الأول.

وهنا يتوقف العارفون عن "مقاطعة" اللقاء الذي عقد في بكركي، مميّزين بين شقّيْها الشيعي والمسيحي، إن جاز التعبير، فصحيح أنّ المقاطعة الشيعية عبّرت عن موقف "احتجاجي" ضدّ البطريرك بشارة الراعي تحديدًا، من دون كثير من الضجّة، ومع "الانفتاح" على لقاء الموفد الفاتيكاني، إلا أنّها لم تعطِ انطباعًا "إيجابيًا"، ولا سيما أنّ المكوّن الشيعي هو الذي يدعو إلى الحوار والتفاهم بصورة مستمرّة، وينفي تهمة "التعطيل" عن نفسه.

لكنّ الأهمّ من المقاطعة "الشيعية"، إن جاز التعبير، تمثّل في مقاطعة رئيسي حزبي "القوات" و"الكتائب" سمير جعجع وسامي الجميل للقاء الذي عُقِد في بكركي، انسجامًا ربما مع موقفهما الرافض للحوار بشكله التقليدي، رغم أنّ مثل هذا الحوار، لو تمّ برعاية الفاتيكان، مع ما يمثّله على المستوى المسيحي، كان يمكن أن يشكّل "فرصة حقيقية" لتحقيق تقدّم، مهما كان بسيطًا، بما يمكن أن يفضي إلى "مَدخَل جدّي" لحلّ الأزمة الرئاسية.

صحيح أنّ المحسوبين على "القوات" و"الكتائب" يؤكدون انفتاحهم الكامل على بكركي والفاتيكان، وأن المقاطعة ليست واردة، بدليل أنّ رئيسي الحزبين أرسلا من ينوب عنهما في اللقاء، لكنّ العارفين يعتبرون أنّ غيابهما شكّل "نقطة ضعف" للقاء، بل قد يكون السبب الأساسي في "فشله"، ولا سيما أنّ بعض التسريبات أشارت إلى أنّ الموفد الفاتيكاني كان يرغب في أن يجمع القادة المسيحيين، ولا سيما جعجع وباسيل، على طاولة واحدة.

لكلّ هذه الأسباب، يبدو ثابتًا أنّ الفاتيكان رغم الرمزية التي يحملها، لن يستطيع إحداث "الخرق" الذي عجز عن تحقيقه مختلف الوسطاء الذين تناوبوا على "تجربة حظّهم" في الملف الرئاسي، داخليًا وخارجيًا، وذلك بكلّ بساطة لأنّ ظروف الانتخابات لم تنضج بعد، حيث يعلم القاصي والداني أنّ ظروفه سيزيل تلقائيًا الكثير من "الفيتوات" المفروضة، حتى على فكرة الجلوس على طاولة واحدة، ولو توافرت مقوّماتها، سواء تحت عنوان حوار أو غير ذلك.

في النتيجة، لا يشكّ أحد بأهمية زيارة أمين سرّ دولة الفاتيكان إلى لبنان، مع كلّ ما تنطوي عليه من رسائل ودلالات، لكنّ ما لا يشكّ به أحد أنّ الكرة تبقى في الدرجة الأولى والأخيرة بيد القوى السياسية الداخلية، وليس خافيًا على أحد أنّ تعامل هذه القوى مع الزيارة، على أهميتها، لم يُظهِر "حسن النيّة" المطلوب بالحدّ الأدنى، ما يكرّس حقيقة أنّ الاستحقاق الرئاسي لا يزال مؤجَّلاً، إلى أجل يبدو غير مسمّى في أفضل الأحوال!.