على غرار السيناريو المتّبع في الافلام، يلعب كل من رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت ادوارهما وفق سياسة "الشرطي الصالح والشرطي السيء" Good cop bad cop. ففي حين يرفع نتنياهو السقف ويهدد ويتوعّد ويصرّ على الفوز بالحرب وتحقيق الانتصار والا ستبقى الحرب الى امد غير محدد، يخرج غالانت من واشنطن تحديداً لنقض كلام رئيسه، فيعترف بما هو معروف مسبقاً من ان اسرائيل لا يمكنها ان تعيش من دون الولايات المتحدة الاميركية وبالتالي لا يمكن الابتعاد عنها، ولا يتمسّك في الوقت نفسه بالحلول العسكرية على الحدود الجنوبية للبنان او تصعيد العمليات الميدانية في غزة ورفح.

بكلام آخر، يمكن القول ان اسرائيل باتت اكثر "واقعية" في التعاطي مع ما اقترفته يداها، ولا يمكن في هذا السياق التقليل من اهميّة كل الاحداث والتوترات التي قادت الى المحطة التي وصلنا اليها اليوم، ان من حيث اعداد القتلى والجرحى والاضرار التي فاقت الخيال، او من حيث الفشل في تحقيق اهداف الحرب، او انقلاب الرأي العام على اسرائيل بصورة غير مسبوقة، او الخلافات العلنية مع الولايات المتحدة، او الانقسام الداخلي في الشارع الاسرائيلي، او "اللدغات" المؤلمة التي وجهها حزب الله، او التخوف من توسيع رقعة الحرب وفقدان السيطرة اذا اشتعلت الامور على الجبهة اللبنانية...

كل هذه التطورات ادت الى الخلاصة التالية: اسرائيل اصبحت اكثر تقبلاً للحفاظ على ماء الوجه، وفي ما خصّ الوضع على الحدود اللبنانيّة، فإنّها لم تعد متمسكة بخيار الحرب، بل يهمها فقط اعادة المستوطنين الى مستوطناتهم واضفاء طابع الامان والاطمئنان الى واقعهم، ما يعني التوصل الى صيغة كانت موجودة في القرار 1701 وتقضي بابتعاد حزب الله عن الحدود مسافة مقبولة، فيعود كل شيء الى سابق عهده. قالها غالانت بالامس بصراحة، ويعمل في سبيلها الاميركيون والاوروبيون لتفادي المصائب التي يمكن ان تترتب عليهم بالدرجة الاولى في حال اندلاع الحرب الواسعة. لاتبدو الشروط تعجيزية، انما ما يهمّ هو ايجاد مخرج يؤمّن الحفاظ على ماء الوجه لنتنياهو وافراد شلّته الحكومية. في الوقت نفسه، لا يجب المغالاة من الناحية اللبنانية، او التعاطي بمنطق "فائض القوة"، لانّه في حال اندلاع الحرب، فستكون الخسائر كبيرة جداً ان من ناحية القتلى او الاضرار الماديّة، وقد لا يتمكن لبنان من التعافي منها بشكل سريع، حتى ولو عانت اسرائيل ايضاً من خسائر، الا انها تتمتع بدعم لا محدود على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، والاهم الاقتصادي والمالي وهو ما يفتقده لبنان. وعليه، فإنّ التعاطي مع الامور برويّة ومنطق، هو الذي يجب ان يسود، وحتى الآن تبدو الامور متّجهة الى منحى التسوية، مع تسجيل غياب سعودي لافت لم يكن معهوداً من قبل، فيما استعيض عنه على ما يبدو بتحرك قطري ناشط يعمل على محاولة ملء الفراغ الذي تركه القرار السعودي بتراجع الاندفاع والحماسة للعب الدور الذي طالما اعتادت عليه الرياض في مثل هذه الظروف.

وكي لا يتم فهم الامور بشكل خاطئ، لا تزال كل السيناريوهات مطروحة، ولكنها، على غرار الاستحقاق الرئاسي اللبناني، تتقدم وتتراجع وفقاً للتطورات، فيرتفع منسوب الحرب حيناً ويخف حيناً آخر، وتتقدم نسبة التسوية قبل ان تتراجع بشكل كبير بعدها... وفي الوقت الحالي، فإن اسهم التسوية هي السائدة، واذا ما تم استغلالها كما يجب، فيمكن عندها الوصول الى ارساء ستاتيكو معيّن يسمح بتمرير الانتخابات الرئاسية الاميركية من دون ايّ تطورات دراماتيكية في المنطقة، قبل ان تظهر الصورة بوضوح اكبر بعد انتخاب رئيس اميركي، فإمّا يتم معاودة التحرك بزخم اكبر في حال فوز الديمقراطيين، واما التحضير لسيناريو آخر والعودة الى الوراء لبدء سياسة جديدة وتصور آخر في حال فوز الجمهوريين.