لأبو ذر الغفاري مقامات عدة في الجنوب، ومن هذه المناطق والقرى: عين قانا، ميس الجبل، القليعة، أنصار، الطيبة، الصرفند، عيترون، عين بعال، عيتيت، دير عامص، مركبا، وغيرها الكثير أيضاً من القرى والبلدات التي ترك فيها أثراً بارزاً كبيراً له من المعنى والثقل التاريخي والتحضر الديني، وهذا يكشف عن احترام ومقام هذه الشخصية العظيمة الجليلة.

وأبو ذر الغفاري قال: "جبل عامل ما ارادك جبار بسوء الا وقصم الله ظهره نصفين"، فهو أمضى حياته في الجبل المذكور ولذا أقيمت له مقامات في كل بلدة مرَّ وبات فيها. ويشير رئيس الجمعية العاملية لاحياء التراث في الحنوب الشيخ قاسم المصري، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن "للبنان تاريخ مشرق عبر جميع الأزمان وفي الحضارات القديمة والحديثة، والتي اختصت به جبل عامل بخصوصيّات بارزة في تاريخه الثقافي والتراثي، حيث عرفت تلك البلاد بالأمانة وحسن الضيافة وعزة النفس والدفاع عن المظلومين، لذا نجد آثار العظماء فيه كثيرة، حيث كان المأوى والملجأ والحماية لهم من أنواع الظلم والاضطهاد".

ويوضح المصري أنه "في بداية الدعوة الإسلامية، كان للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري خصوصية في جبل عامل، فقد عرف بمجاهرته بالحق وإنكاره للباطل والمنكر وصدقه في الحديث مهما كان مراً وصعباً على آخرين". ويلفت إلى أن سيرته حافلة بالمواقف منذ اليوم الأول لإسلامه على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحلك الظروف وأصعبها وهذا ما جعله يعاني الكثير الكثير، وما جاء بحقه على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما أقلت الغبراء وما أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر". وبقية مواقفه ساطعة بالحق وشامخة بالكرامة حتى بعد شهادة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويشير المصري إلى أنه "لذا نفي من مراكز الحكم إلى أطراف البلاد، فاستقبله أبناء جبل عامل برحابة صدر وتعطش لمعرفة ما نقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما جعله في مأمن ليجوب ويلتقي العباد حتى عرفت البلاد باسمه فكتب المؤرخون عنها تحت عنوان بلاد أبي ذر الغفاري"، ويرى أن "من الملفت للنظر أن أغلب الأماكن التي وصلها من قرى جبل عامل قد بني فيها مقاماً له بعد رحيله عنها، فعشرات الآثار التاريخية باسم أبي ذر الغفاري. وقد تعرض الكثير منها للضرر الجسيم في فترات مختلفة من التاريخ المليء بالحروب والحوادث، إلا أنه قد رُمِّمت غالبيتها في الأونة الأخيرة".

ويلفت المصري، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مقام في بلدة الصرفند لا يزال إلى يومنا هذا مقصداً للصلاة والدعاء، وكذلك في بلدة أنصار، وقد رمم وأصبح بمثابة مسجد يقصده الناس للعبادة والتبرك، حيث كان هذا المكان محطّة لأبي ذر وملتقى للناس معه، وهو بالقرب من الوادي الذي كان مقصداً للناس في حاجياتهم ورعاية مواشيهم، فيلتقي بهم هناك لينهلوا من علومه ومعارفه، وسيرته الحسنة الشامخة هذه هي التي تخرج منها آلاف العلماء والشهداء.

ويعتبر المصري أنه "لا نكون مبالغين إذا قلنا أن المناعة وصلابة الموقف عبر أكثر من 1420 سنة لتلك المناطق، لها أثر وثيق بتربية أبي ذر وبركته في من احتضنه وسمع منه، فلا الغزوات غيّرت من ثقافتهم وعزيمتهم، ولا الحرمان بدّلهم رغم قساوته عليهم. وقد كان الاحتلال سبباً في زيادة العزيمة والصلابة والشموخ، حتى قال فيهم بعض الباحثين أنّ بلاد أبي ذر الغفاري، المعروفة ببلاد جبل عامل، تشبه في حقيقتها مادة الزئبق الذي لا يقبل التحول عن حقيقته بأيّ مادة أخرى"، ويضيف: "نعم، تراث مشرق أنار الحضارات في عمق التاريخ وشاهد على جمال المكان وأهله، فلا ينبغي التفريط بكنوز قلّ نظيرها، وفي سبيلها ترخص التضحيات والدماء مهما كانت غالية".