هذا ما رتّلناه في العنصرة ونرتّله في أعياد كبرى أخرى. الآية تحمل خلاصًا فريدًا من نوعه، وهو اتّحاد الله بالإنسان، واتّحاد الخالق بالمخلوق وتقديسه له.
هذه الآية تلخّص المسيحيّة العاشقة لإله عشقَنا أوّلًا، فلبس جسدنا وأخذنا على عاتقه، لنلبسه نحن، وذلك كلّه لأنّنا أبناء الملك السماويّ.
كلام يتطلّب دخولَ منطق المحبّة الإلهيّة اللامتناهية. إنّها عمليّة اكتشاف حبٍّ ليس من هذا العالم، ومن يكتشفه يدخل حالةَ عشق وارتقاء. هذا ما عاشه القدّيسون فرنّموا مع صاحب المزمور 77 : "أَيُّ إِلهٍ عَظِيمٌ مِثْلُ اللهِ؟ أَنْتَ الإِلهُ الصَّانِعُ الْعَجَائِبَ" (مز 13:77-14). الله نزل إلينا واتّحد بنا ورفعنا إليه، وضمّنا إلى صدره ضمّ الآباء لأبنائهم. وهذا ما جعل القدّيسين يستشهدون من أجل المسيح ولا يساومون على الإيمان المسيحيّ الحقّ.
لهذا نقول بجرأةِ المحبّة الباذلة: لا إله بالنسبة إلينا إن لم يكن الربّ يسوع المسيح المتجسّد والمصلوب والقائم.
فلا محبّة من دون تجسّد، ولا خلاص من دون صليب، ولا غلبة من دون قيامة. يبقى علينا أن نعي إيماننا ونصقله بالفهم الصحيح.
نبدأ بفعل "اعتمدتم". الأصل اليوناني هو (baptizo) ويعني التغطيس الكامل لأخذ حلّة جديدة، أي تغيير كامل. فهناك نصّ للشاعر والفيزيائيّ اليونانيّ Nicander (القرن الثاني قبل الميلاد) يستعمل الفعل ليصف الحلّة الجديدة التي تأخذه المخلّلات بعد غمسها أوّلًا(bapto) في الماء المغليّ ثمّ "تعميدها" (baptizo) في محلول الخلّ.
هكذا نحن نعتمد بالمسيح لنأخذ حلّة جديدة. فقد قال الربّ لتلاميذه بعد قيامته: «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ." (مرقس 15:16-16)، هذا يعني أنْ نخلع عنّا إنسان الخطيئة ونلبس إنسان النعمة بالمسيح. ويبقى أن نحافظ عليها مغتسلين كلّ مرّة بدموع توبتنا الصادقة.
أمّا كلمة "المسيح أي الممسوح بالروح القدس" فهي الجوهريّة، لأنّه الربّ الخالق، الكائن، المخلّص، الواحد في الجوهر مع الآب والروح القدس، الذي تعليمه لا مثيل له، وسيرته لا شبيه لها. هو الضابط الكلّ والجبّار الذي أتى يقف أمام باب قلبنا يطلب الإذن منّا للدخول، لأنْ هكذا هي المحبّة.
دخول الربّ قلبَنا معناه أنَّنا أخذنا قرارًا بأن يكون هو إلهنا الوحيد، ولا نعبد سواه، ولا نميل إلى غيره.
هكذا تكون القداسة التي تعني أن نخصّص أنفسنا للربّ، ولا نقبل بشريكٍ له عندنا. وبالتالي، من خلاله، نحبّ الآخر ونمتدّ اليه. يصبح الربّ كلّ شيء فينا، ويصبح القدّيس، به، إنجيلًا حيًّا.
هذه هي سكنى الروح القدس فينا، لهذا يأتي أحد جميع القدّيسين بعد أحد حلول الروح القدس مباشرة.
كرّمت الكنيسة، منذ القرون الأولى الشهداء، وفي القرن التاسع الميلاديّ مع الإمبراطور الروميّ ليون الحكيم، ضمّ العيد قدّيسين لم يستشهدوا، لأنّ حياتهم شكّلت شهادة بيضاء (الاستشهاد هو شهادة حمراء)، عملًا بما قاله الربّ: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي." (لوقا 9: 23). لهذا تقول الكنيسة إنّ عدد القدّيسين لا يمكن أن يحصى، فهناك قدّيسون كثر لا نعرفهم، ولا يمكن حصرهم في الأيقونة.
منذ ذاك القرن تقريبًا، ظهرت أيقونة جميع القدّيسين، وهي على الشكل التالي: القسم الأكبر يضمّ الربّ جالسًا على كرسي مجده في وسط دائرة الكمال، وحوله القدّيسون. كيف لا وهو الشمس التي لا تغيب والقدّيسون هم الكواكب اللامعة التي تدور حوله. يتوزّع القدّيسون في صفوف: الشهداء، النسّاك، الآباء، الرسُل، كأنّنا بذلك نقرأ ما يقوله سفر الرؤيا والرسالة إلى العبرانيّين عن سحابة الشهود الأتقياء.
عن يمين الربّ مباشرة والدة الإله، وعن يساره القدّيس يوحنّا المعمدان. كلاهما يقفان منحنيَين نحو يسوع في حالة تشفّع Deisis.
نشاهد ضمن الدائرة الثانية الصغرى حول يسوع أربع مخلوقات يرمزون إلى الإنجيليّين الأربعة[1]: متّى الملاك-الإنسان، مرقس الأسد، لوقا الثور، يوحنّا النسر.
الدائرة الأصغر خلف يسوع هي الأغمق للدلالة على أنّ جوهر يسوع الإلهيّ لا يُدرك. تنبعث منها إشعاعات تملأ الدائرتين، لأنّ يسوع هو إله من إله ونور من نور. هذا ما كشفه الربّ لتلاميذه في التجلّي الإلهيّ.
تحت الربّ، في الدائرة الثالثة الكبرى، آدم وحوّاء يسجدان للربّ أَمام العرش حاملَين جرّة مليئة بماء الحياة الأبديّة التي تفيض ولا تنضب، كيف لا ويسوع هو الحياة. ولا ننسى أنّ البشارة الخلاصيّة الأولى بمجيء المخلّص، أعطاها الله لحوّاء عندما قال للحيّة – الشيطان – إنّ من نسل حوّاء يأتي من يسحق رأسها. فكانت مريم حوّاء الجديدة التي حبلت بيسوع بالروح القدس.
في بعض الأيقونات نشاهد القدّيسَين قِسطنطين وهيلانة يحملان الصليب، بينما آدم وحوّاء يسجدان أمام العرش والإنجيل.
نلاحظ في أيقونة جميع القدّيسين هالة القداسة خلف رأس آدم وحواء، خلاف وجودها في أيقونة نزول الربّ إلى الجحيم حيث ينتشلهما الربّ (أيقونة القيامة)، مراد ذلك أنّ الأيقونة الأولى تظهر الحالة النهائيّة التي بلغها القدّيسون، لأنّهم أصبحوا في الملكوت.
فوق آدم وحوّاء، نرى الصليب والإنجيل على المائدة، الصليب علامة الغلبة والإنجيل كلمة الحياة.
في أسفل الأيقونة يقف لصّ اليمين في وسط الفردوس حاملًا صليبه، وعن يمينه إبراهيم يحمل قطعة قماشٍ في داخلها نفوسُ الأتقياء - والقماش رمزٌ إلى قُدسيّة النفوس - ويعقوب عن يساره يحمل الأسباط الاثني عشر.
في أَعلى الأيقونة نشاهد في الزاويتَين الملكَين داود وسليمان. داود يحمل رايةً مكتوبٌ عليها: "مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اَللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا!" (مز١٧:١٣٨)، أمّا راية سليمان الملك فمكتوبةٌ عليها آيةٌ مِن سِفرِ الحِكمَة: أَمَّا نُفُوسُ الصِّدِّيقِينَ فَهِيَ بِيَدِ اللهِ، فَلاَ يَمَسُّهَا الْعَذَابُ" (حك ١:٣).
نحن مدعوّون إلى شركة كاملة مع الربّ، ألا لبّيْنا الدعوة؟
إلى الربّ نطلب.
[1]. بحسب رُؤيا حَزقيَّالِ النَّبيّ (الإصحَاحَان الأَوَّلُ والعَاشَر)، ورُؤيا يُوحَنَّا الإنجِيليّ (الإصحَاحُ الرَّابِع). كَمَا أنَّ الرَّقمَ أَربعَة يُمَثِّلُ العَالَمَ في الجِهاتِ الأَربع (زك ١:٦، ٥، مت ٣١:٢٤).