لبنانُ الكوزموبوليتِيُّ، أيّ المُتَجَذِّرُ في حَقيقَتِهِ، والمُنطَلِقُ مَنها الى رَحابَةِ الوجودِ... وأبعَدُ، بانَ لِلروحِ. بَل مِنَ الروحِ إنطَلَقَ لِإعلاءِ الإِنتِماءِ الى مَشروعِيَّةِ الإِنسانِ كَكُلٍّ. أهوَ بانَ لِحَضاراتٍ؟ أكثَرَ! هو بانَ لِتَطَوُّرٍ، لَيسَ إمتِدادُهُ على خَطٍّ أحَدٍ، إنَّما على تَناغُمِ آفاقٍ تَتَزاوَجُ فيها القِوى الإدراكِيَّةُ، بِتَناغُمِ العَقلِ والقَلبِ.
كَيفَ لا، وَأسَسِيَّةُ إنطِلاقِهِ الأُمَّوِيُّ، رَجُلٌ مِن سُلالَةِ مُلوكِ إبتِداعِ الحُكمِ بالمَعرِفَةِ، بالتَواصُلِ، بالتَقارُبِ... لا بالإِستِعلاءِ فالتَسَلُّطِ: تاليس Thalễs Θαλῆς. مَن رَفَعَتهُ أثينا الى أعظَمِ حُكمائِها السَبعَةِ، مَن جَعلَها رَبَّةَ الحِكمَةِ البَشَرِيَّةِ، وَتَوَّجَتهُ ميليتيا السَكَنها بإِسمِها فَغَدا Θαλῆς ὁ Μιλήσιος Thalễs ho Milếsios. وَها مؤَرِّخُها ديوجينوسُ لائرسيوسُ (أليُصَنِّفُهُ هيغيلُ في "مُحاضَراتِ تاريخِ الفَلسَفَةِ" بِأَهَمِّ مَرجَعِيَّةٍ في المَرحَلَةِ الإستِهلالِيَّةِ لِلفِكرِ) يَنقُلُ عَن ابولودوروسَ أنَّهُ ولِدَ أثناءَ دَورَةِ الألعابِ الأولَمبِيَّةِ ال35، العامَ 640 قَبلَ الميلادِ، وَعَن سوسيقراطُسَ أنَّهُ توفِيَ مَعَ إنطِلاقَةِ الدَورَةِ ال58 العامَ 550 قَبلَ الميلادِ. وَيَنقُلُ جازِماً عن هيرودوتَ، وَدوريسَ الساموسيَّ وَديموقريطوسَ أنَّ والِدَهُ أيكزاميوسَ وَوالِدَتَهُ كليوبولينَ، كِلاهُما مِن نَسلِ التيليديسَ الُلبنانِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ، "العائِدَةِ الى أجينورَ مَلِكِ صورَ وإبنِهِ قُدموسَ وإبنَتِهِ اوروبا"، على ما يَكتُبُ أفلاطونَ المَولودَ في جَزيرَةِ إيجين، في مَنزِلِ فيدياداسَ إبنِ تاليسَ.
تاليسُ، مُؤَسِّسُ الحِوارِ الكَونِيِّ بَينَ العَقلِ والقَلبِ: العَقلُ سائِلاً، وَالقَلبُ مُجيباً... لا بأَساطيرَ، بَل بالمَنطِقِ. بِهِ إتِّحادُ العَقلِ والقَلبِ: السؤالُ والضَمانَةُ. الواقِعُ والدَليلُ. الضامِنُ والمَضمونُ.
هو السابِحُ تأسِيساً لِلفَلسَفَةِ، وَعُلومِ الفَلَكِ والمَساحَةِ والرياضِيَّاتِ والجيوميتريا والأخلاقِيَّاتِ والسِياسَةِ والطَبيعِيَّاتِ والميتافيزيقيا...، أوَضَحَ مَسارَ النُجومِ الكانَ الُلبنانِيُّونَ-الفينيقِيُّونَ يُبحِرونَ على هَديِها فَعُرِفَت كَوكَبَتُها بِ"نَجمَةِ فينيقيا". وَجالَ الشَرقَ، وَعَلَّمَ المَصرِيِّينَ قِياسَ إرتِفاعِ الأهرامِ. وأعلى الوجودَ أصلاً لِلخَلقِ، والأرضَ طائِفَةً على المِياهِ ‒المَبدأ الأسمى لِلحَياةِ، على ما تَذكُرُهُ كوسموغونِيَّةُ سَنخوني أتُنَ البَبروتِيَّ‒، وَكُلُّ مَن وَما فيها مُمتَلِىءٌ بالنُفوسِ والأرواحِ. وَينقُلُ أفلاطونُ في "مُحاواراتِ بروتاغوراسَ"، عَن مُعَلِّمِهِ سُقراطَ "أنَّ الحُكَماءَ السَبعَةَ الَذينَ إِشتَهَروا في مُدُنِ الإغريقِ قَبلَ ظُهورِ الفَلسَفَةِ، تَختَلِفُ قَوائِمُ أسمائِهِمِ بَينَ حَذفٍ وإضافَةٍ، لَكِنَّ الأربَعَةَ التي تَتَّفِقُ القَوائِمُ كُلُّها على عَدَدِهِمِ هُمُ: تاليسُ وَبِتاكوسُ وَبياسُ وَسولونُ. وأوَّلُهُمُ تاليسُ، مَن جَمَعَهُمُ في مَعبَدِ دِلفي لِيُسَجِّلَ هَذِهِ العِباراتِ التي رَدَّدَها الجَميعُ مَعَهُ: "إعرَف نَفسَكَ بِنَفسِكَ، بِلا مُغالاةٍ"!.
الواقِعِيَّةُ العَقلانِيَّةُ
في هَذا العِناقِ بَينَ الأرضَ والخَلقِ، ثُلاثِيَّةٌ:
إبتِداعُ الفِكرِ الإنسانِيِّ بِواقِعِيَّةٍ عَقلانِيَّةٍ، لا بإنتِقاءٍ هو لِصالِحِ الأقوى في الخَليقَةِ.
وَكُلُّ مِعنى الوجودِ الإنسانِيٍّ بأُعجوبَةِ وجودِهِ، لا بِمَسيرَتِهِ البيولوجِيَّةِ الصِرفِ.
وَتَمهيدُ تَحقيقِ التَخطيطِ الإلَهِيِّ بِقَصدِهِ خَلاصَ الإنسانِ مِن عَميائِهِ المُنتَهِيَةِ الى عَزلِهِ، فإقصائِهِ، فإلغائِهِ، لا بِصِدفَةٍ هُزالُها عَبَثِيَّتُها.
هو تاليسُ الُلبنانِيُّ، الكوزموبوليتِيُّ، الأُمَّويُّ، مؤَسِّسُ لبنانَ على أُقنومِ التَعَمُّقِ في القَصدِ مِنَ الخَلقِ، مُبطِلاً ‒في رَحَمِها‒ أحادِيَّاتِ مُخاصَمَةِ الوَحيِ والعَقلِ. ألَيسَ القائِلُ: اللهُ أقدَمُ المَوجواتِ كُلِّها لأَنَّهُ غَيرُ مَخلوقٍ، والكَونُ أجمَلُها لِأنَّهُ يَحتَويها كُلَّها... أمَّا العَقلُ فأَسرَعُها لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ في كُلِّ مَكانٍ، والضَرورَةُ أقواها لِأَنَّها تُهَيمِنُ عَلَيها، والزَمَنُ الأكثَرُ حِكمَةً لِأَنَّهُ يَكشِفُها..
هو لبنانُ التاليسَويُّ، مُنذُ المُبتَدأُ، الأُمَّوِيُّ، الكوزموبوليتِيُّ، مُبتَدِعُ جَوهَرَ مَسؤولِيَّةِ الخَلقِ بَثُنائِيَّتِها: المادَّةُ ‒الأبعَدُ مَفهوماً مِن طَبيعَتِها المَحدودَةِ‒ وَالروحُ ‒ألفي صَميمِها الحُرِيَّةُ‒: ثُنائِيَّةٌ سَيُكَرِّسُها اللهُ عَينُهُ بِتَجَسُّدِ إبنِهِ تَتويجاً لِشُمولِيَّةِ الحَياةِ.