مجدّدًا، اشتعلت الجبهة اللبنانية في الأيام القليلة الماضية، على وقع الغارة التي شنّتها القوات الإسرائيلية على مدينة صور، وأدّت إلى اغتيال أحد قادة "حزب الله" الأساسيّين، محمد نعمة ناصر، أو "الحاج أبو نعمة"، والذي قال الإسرائيليون إنّه القائد الميداني الأقدم في كامل القطاع الغربي، فضلاً عن كونه المسؤول عن كلّ العمليات التي جرت في القطاع الغربي منذ فتح الجبهة في الثامن من تشرين الأول الماضي.

ويُعتبَر اغتيال ناصر الثاني من نوعه، بعدما كانت إسرائيل اغتالت قبل نحو شهر القيادي طالب سامي عبد الله، أو "الحاج أبو طالب"، والذي صُنّف حينها بالقائد الأعلى رتبة في الحزب الذي تستهدفه إسرائيل منذ بدء المعارك، وهو الذي كان مسؤولاً عن عمليات "حزب الله" في المنطقة الوسطى من الشريط الحدودي، علمًا أنّ هذا الاغتيال وما خلّفه من استنفار حينها، رفع مستوى الحرب النفسية بين الجانبين إلى الذروة.

ولعلّ المفارقة اللافتة التي تسجَّل هذه المرّة أيضًا، تكمن في أنّ التصعيد المتجدّد جنوبًا، جاء على وقع تجدّد الحراك الدبلوماسي الضاغط من أجل تجنّب الانزلاق إلى سيناريو الحرب الواسعة أو الشاملة، فهو تزامن مع تنسيق أميركي فرنسي على أعلى المستويات، تجلّى في زيارة المبعوث الأميركي هاموس هوشكتاين إلى باريس، ولقائه مع الموفد الرئاسي الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان.

وفي حين لم يرشح أيّ شيء عمليّ عن هذا اللقاء، وسط تضارب في المعلومات عن نتيجته، بين من وصفه بالمثمر، ومن اعتبره فاشلاً، في ظلّ التباعد في وجهات النظر بين الجانبين الفرنسي والأميركي، ولو تقاطعا على "مصلحة" تحقيق إنجاز سريع على المستوى اللبناني، فإنّ السؤال الذي يُطرَح منذ اليوم الأول لفتح الجبهة يعود ليتصدّر المشهد، فهل تنفلت الأمور على الجبهة وتخرج عن السيطرة؟.

بالنسبة إلى التصعيد المتجدّد على خطّ الجبهة اللبنانية، والذي جاء بعد مرحلة من الهدوء النسبيّ بدت لكثيرين بمثابة "هدنة غير مُعلَنة"، فإنّ العارفين يدعون لوضعه في سياقه، بعيدًا عن أيّ استنتاجات قد لا تكون في مكانها، وهو المرتبط حصرًا بعملية الاغتيال التي أرادت إسرائيل من خلالها توجيه رسائل إلى "حزب الله" بأنّها لن تتردد في استهداف قادته متى سنحت لها الفرصة، وبالرد الطبيعي من الحزب، الملتزم بمعادلة أنّ "اغتيال قادتنا لن يمرّ من دون ردّ".

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ الرسائل الإسرائيلية خلف عملية الاغتيال واضحة، وليس من بينها بالضرورة توسيع الحرب، وإنما تأكيد على قواعد الاشتباك "المُستحدَثة" إن جاز التعبير، والتي تشرّع إسرائيل لنفسها بموجبها الحقّ بضرب قياديي "حزب الله" وقادته في أيّ مكان، ولو أنّ البعض يعتقد أنّ ثمّة جناحًا في الحكومة الإسرائيلية يدفع نحو مواجهة عسكرية كبرى، عبر "استدراج" الحزب إليها، ليتحمّل مسؤولية "الطلقة الأولى" بصورة أو بأخرى.

في المقابل، يلفت العارفون إلى أنّ ردّ "حزب الله" الصاروخي والمتدرّج على الاغتيال، وإن شكّل عنوانًا لـ"تسخين" الجبهة في اليومين الماضيين، إلا أنّه لم يخرج عن دائرة التوقعات، باعتبار أنّ الحزب لا يزال ملتزمًا بأن تكون عملياته وردوده "تحت سقف" عدم الذهاب إلى حرب، وهو سبق أن حدّد "قواعد اشتباكه" بهذا المعنى، عندما أعلن أنّه جاهزٌ للتحرّر من "الضوابط والقيود" التي وضعها لنفسه، إذا ما فُرِضت عليه الحرب، وليس قبل ذلك.

وإذا كان هناك من يرى أنّ إسرائيل تمضي قدمًا في سياسة الاغتيالات، التي قد تجد فيها "مصلحة أكبر" من الحرب المباشرة والمفتوحة، لأنّها "مطمئنّة" بأنّ ردود الحزب ستبقى "مضبوطة"، ولن تصل لحدّ الانجرار إلى الحرب، فإنّ العارفين بأدبيّات الحزب يشدّدون على أنّ الأخير عندما فتح "جبهة الإسناد" كان يدرك العواقب التي قد تترتّب على ذلك، لكنه لم يحِد عن البوصلة، ما يعني أنّ الجبهة ستبقى مفتوحة، حتى التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة.

في السياسة، تتضارب القراءات حول التصعيد المستجدّ في هذا التوقيت، الذي يتزامن مع تزخيم الحراك الدبلوماسي بين الفرنسيّين والأميركيّين تحديدًا، كما يتزامن مع تطورات لافتة على خطّ الحرب على غزة، سواء لجهة عودة الحديث عن المفاوضات، وعن تفاؤل قد لا يكون واضحًا على خطّها، أو لجهة التسريبات عن استعداد إسرائيل للانتقال إلى المرحلة الثالثة، التي يفهمها البعض على شكل وقف أحادي لإطلاق النار، من دون اتفاق ولا تفاهم.

وعلى الرغم من الغموض الذي ساد بعد اللقاء بين لودريان وهوكشتاين في باريس، في ظلّ حديث عن اختلاف شاسع في وجهات النظر، يقول العارفون إنّ أهمية توحيد الجهود الفرنسية والأميركية، عسكريًا وسياسيًا، تكمن في الضغط الذي يمكن أن يشكّله هذا الأمر على الجانب الإسرائيلي تحديدًا، علمًا أنّ هناك من يخشى من تراجع في دور الرجلين الخارجين، بفعل الاستحقاقين الانتخابيين في كلّ من الولايات المتحدة وفرنسا.

رغم ذلك، فإنّ جهود الرجلين لا تبدو كافية لإحراز تقدّم أو إحداث خرق فعليّ، بحسب ما يقول العارفون، لأنّ الخشية من التصعيد الإسرائيلي تبقى متقدّمة، على وقع التهديدات المتصاعدة للمسؤولين الإسرائيليين، الذين يشدّدون على أنّ "لا مفرّ من الحرب" في نهاية المطاف، ولو وضع البعض ذلك في خانة "رفع الأسقف" قبل التسوية، ورأى البعض الآخر أنّ تل أبيب لا يمكن أن تقدم على أيّ خطوة من دون الحصول على "غطاء" واشنطن أولاً.

ويبقى الثابت بحسب ما يقول العارفون، أنّ أيّ تقدّم يبقى "مربوطًا" بالمفاوضات الجارية حول غزة، وهي وجهة نظر بات الجانب الأميركي مقتنعًا بها بصورة أو بأخرى، وقد عبّر عنها هوكشتاين أكثر من مرّة، ولو حاول في زيارته الأخيرة الحصول على بعض "التنازلات"، علمًا أنّ "حزب الله" لا يزال رافضًا لأيّ نقاش أو بحث بوقف العمليات قبل التوصل إلى وقف النار في غزة، وهو يترك موقفه "غامضًا" حتى في مقاربة ما يسمّى بالمرحلة الثالثة.

في النتيجة، الثابت الوحيد هو أنّ الجبهة اللبنانية تبقى مفتوحة على كلّ الاحتمالات، ولو كان واضحًا أنّ الفريقَيْن المعنيَّيْن لا يريدان الانجرار إلى حرب كاملة بالمعنى التقليديّ والمتعارَف عليه للكلمة. لكن ما دون الذهاب إلى مواجهة واسعة، تبقى كلّ السيناريوهات واردة وممكنة، طالما أنّ خيار "التسوية" متعذّر حتى إثبات العكس ومنها أن تكون المرحلة الثالثة من الحرب على غزة، تعني ضمنًا "التفرّغ" للجبهة اللبنانية...