رعى بطريرك إنطاكية وسائر المشرق يوحنا العاشر ممثلًا بمطران جبل لبنان البطريرك سلوان موسى، إطلاق ورشة دعت إليها حركة الشبيبة الارثوذكسية تتناول فكر كبير مؤسسيها وتأثيراته المحلية المطران جورج خضر ولمناسبة الذكرى المئوية لولادته.

وفي كلمة له خلال المشاركة في الورشة، ذكر وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال محمد وسام المرضتى، أنّ "من جوار بوابة الحدادين في طرابلس العتيقة، إلى بوابات الروح المطلّةِ على مفرداتِ السماء، مِئةٌ من ضوءٍ وكلمات عاشَها المطران جورج خضر من أجل الكنيسة والحقِّ والإنسان، نورانيَّ البشارةِ، إنجيليَّ الخدمةِ، مستقيمَ الفكرِ والطويَّةِ والعزيمة".

وقال: "أَهي قِصَّةُ عمرٍ نحتفلُ بها اليومَ إذن أم قصةُ حياة؟ ذلك أن العمرَ عدٌّ والحياةَ عديد، فكيف بمن ضمَّهما كليهما إلى واحدٍ فيه، منذ "مسرى طفولتِه" حتى اكتمالِ مئتِه، تجسيدًا لمعنى اسمِه الجامع: "جورج" القديسِ البطلِ قاهرِ التنين على شاطئ بيروت، بحسب الرواية المسيحية، و"الخِضرِ" الشخصيةِ نفسِها في الرواية الإسلامية؟ كأنَّما كُتِبَ لصاحب السيادة منذ ولادته أن يكون "أسقفَ التلاقي"، العابرَ من ذاتِه إليها... في الآخر، تمامًا كما كانت طفولتُه تعبرُ به أحياءَ المسلمين من حي النصارى وصولًا إلى مدرسة "الفرير" المجاورة أربعَ مراتٍ في اليوم".

وشدد على أنّه "أسقفُ التلاقي، فكرًا ومنهجًا وخطابًا، مع رسوخٍ في الرأيِ المستقيم، صيَّر حياتَه كلَّها موعظةً حسنةً بأن المعرفة اللاهوتية إن لم يزيِّنْها عيشُ الإيمان لا تساوي في الخلاصِ شيئاً. ذلك أن الإنسانَ عنده كان موضعَ التلاقي وغايتَه، يقينًا منه بأن التنوُّعَ ليس سوى سبيلٍ إلى اكتناهِ الواحدِ في كلِّ شيء، وتلك نعمةُ الله تباركَ وتعالى، جاعلِ الإنسان على صورتِه ومثالِه، وخالقِه من أجلِ عِمارةِ الأرضِ حتى تصيرَ على شبه الملكوتِ الآتي".

وأضاف المرتضى "وما مواقف صاحب المئوية من مجمل تفاصيل القضية اللبنانية، بتشعّباتِها الطائفية والحزبية، وامتداداتِها الداخلية والإقليمية والدولية، وارتداداتِها العسكرية خلال الحروب التي وقعت على أرضِ لبنان، إلا صرخةً في براري المسامع أن التلاقي فرضُ عين، وأن الانفصال مغامرةٌ لا تُعرَفُ عُقباها، (وهنا أقتبسُ منه) "لأن اعتزالَ المسيحيين قد يعرِّضُهم إلى خبرةٍ أصولية، ولأن عزلتَهم في محيط مسلم كامل، غالبًا ما تسلخهم عن المساعي العصرية الحضارية التي قاموا والمسلمينَ بها". مؤكّدًا أن عبارةَ "لبنان وطن نهائيٌّ لأبنائه" قالها المسلمون أولًا، وتحديدًا الإمام المغيب السيد موسى الصدر. علمًا أنه في مواجهة خطر النزوح السوري صارت هذه العبارة على لسان رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام في مؤتمر القمة العربية في نواكشوط: "لبنان وطن نهائي لأبنائه، ولأبنائه فقط".

وقال: "جورج خضر أسقفُ الجراح أيضًا، وأشدُّها نغرًا في قلبِه ومدادِه جرحُ فلسطين. قولتُه الراديكاليةُ في الكيان المغتصب، أنه "دولة حُبِل بها بالإثم ووُلِدت في الخطيئة" ما زال توالي الأيام يثبتُ صحتَها. ومن دون أن نعرِضَ لما ارتكبَه قتلةُ الأنبياءِ وبنوهم، من ممالك ِكنعان إلى ممالكِ أوروبا، يبقى أن المطران جورج وجَدَ وجهَ يسوع في جراح الفلسطينيين وتشردِهم ودموعِهم على عتبات المنافي فوق مفاتيح البيوت. جراحٌ وتشرّد ودموع ما برحت تتكرّر من دير ياسين إلى غزّة، ومن النهر إلى البحر، في جلجلةٍ لا تنتهي، فاليومُ في القتلِ صِنوُ البارحة، وبيلاطسُ دائمًا يغسلُ يديه، ويُسْلِمُ الطهر إلى السفَّاحين ليصلبوه. لكننا نحن أولادَ العزيمةِ والرجاء، سنبقى على إيمانٍ وثيق بأن فلسطينَ مستعادةٌ كلُّها عمّا قريب، وبأننا في غدٍ سندخلُ القدسَ حجيجًا من غير أن يختمَ على جوازات سفرِنا ضابطٌ إسرائيلي، كما أراد لنفسِه ولنا المطران خضر".

وتابع المرتضى "المطرانُ أخيرًا أسقف العربية. وأعني هنا اللغةَ لا الجغرافيا. فلا أحدَ سواه كما أظنُّ استحقَّ أن يقامَ على كرسيِّ اللغةِ مثلَما هو مقامٌ على أبرشيةٍ بعينِها، بحسب التنظيمِ الكنسي. مردُّ ذلك إلى أنه ينطقُ بالروح، ويكتبُ بضوءِ المحبة. لغتُه العميقةُ الغَورِ الضّاجَّةُ بالفصاحةِ، الزاخرةُ بكلِّ لؤلؤٍ ثمين، جعلت من المطران المثخَنِ بمشرقيتِه، أو بأنطاكيتِه، أو بعروبتِه، سمّوها ما شئتم، قمةً شاهقةً من سلسلة أولئك الأحبار العُلى الذين حفِظوا العربية وطوروها، وأجرَوْها في أرضِ الزمن الجديبِ سلسبيلَ ألسنةٍ وحروف، فدحضوا المقولةَ المعروفةَ: "أبَتِ العربيةُ أن تتنصَّر"، وهي أصلًا لم تتغرب عن النصرانية في جاهلية قومها، ثمَّ عادت فتنصَّرَت في نهضتَيْها العباسية والحديثة، نظرًا لما أسدى لها المسيحيون من خدماتٍ تضارع ما قدم المسلمون في النهضتين وبعدهما. ولعلَّ التراثَ الضخمَ الذي خلفه صاحبُ المئوية، في المقالات والعظات والمحاضرات والندوات، والتعليم الجامعي والكتب والمؤلفات على اختلافِها، جديرٌ بأن يكون له محلٌّ خاصٌّ في المكتبة الوطنية، في قاعة تحمل اسم المطران جورج خضر؛ وهذا ما كنت اقترحتُه على صاحب السيادة المطران سلوان موسي منذ مدة من الزمن".