لا جديد رئاسيًا. لعلّها العبارة التي سئم اللبنانيون سماعها، لكثرة ما تردّدت في الأشهر غير القليلة الماضية، وتحديدًا منذ استلام "فخامة الفراغ" سُدّة الحكم، خلفًا للرئيس السابق ميشال عون، في تشرين الأول 2022، ولو أنّها شكّلت عمليًا "الأمر الواقع" طيلة الفترة الماضية، حتى في الأوقات التي "تحرّك" فيها الملف ظاهريًا، على وقع مبادرة من هنا أو وساطة من هناك، كان الجميع يدرك أنّ الهدف منها لم يكن أكثر من "ملء الوقت"، بانتظار أمرٍ ما.

لكنّ هذه العبارة تتردّد مجدّدًا اليوم، على وقع استمرار تقاذف كرة المسؤولية بين مختلف الأطراف المعنيّين بالاستحقاق الرئاسي، وتبادل الاتهامات، وربما "النكد" على حدّ وصف البعض، بعدما أضحت الانتخابات "رهينة" حوار ترفض "القوات اللبنانية" مثلاً المشاركة فيه، بأيّ شكل من الأشكال، وأيًا كان "مسمّاه"، فيرفض عرّابه رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة إليه بمن حضر، ويشترط حضور "القوات" حتى يسمح بالتئامه أساسًا.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يبحث عن حلول "خارج الصندوق"، أو ربما خارج إطار المبادرات "المُستنسَخة" التي تناوب عليها كلّ الطامحين للعب دور "وسطيّ" ما، والتي تقوم بمجملها على العناوين نفسها، من دون تغييرات تُذكَر، ومن بين هذه الحلول ثمّة من يلوّح بفكرة الانتخابات النيابية المبكرة استنادًا إلى تجارب الدول، التي أثبتت أنّ استفتاء الشعب هو الخيار الأمثل عند مواجهة أيّ أزمات، أقلّ من إبقاء البلاد "بلا رأس" لفترة طويلة.

وقد وردت هذه الفكرة بصورة أو بأخرى في العظة الأخيرة لمتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس، المطران إلياس عودة، الذي دعا النواب إلى "إفساح المجال لغيرهم بالطرق الديمقراطية التي يمليها الدستور"، إذا كانوا "عاجزين عن القيام بدورهم، أو وصلوا إلى طريق مسدود لا منفذ له"، فإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الطرح منطقيًا وواقعيًا في ظلّ الظروف الحالية، وهل تكون الانتخابات المبكرة الحلّ فعلاً؟!.

في المبدأ، لا أحد يمكن أن ينكر أنّ أزمة الرئاسة قد وصلت فعلاً إلى "طريق مسدود لا منفذ له"، في ضوء الشروط والشروط المضادة التي يطرحها مختلف الأفرقاء، والتصلّب الذي يبدونه، وخصوصًا مع سقوط طرح "الحوار بمن حضر"، أي من دون "القوات"، والذي كان بعض الوسطاء يعمل عليه، ولو أنّ هناك من يعتبر كلّ هذه التفاصيل "شكليّة" لا ترتبط بأصل المشكلة، وهي عدم توافر النيّة ولا الإرادة بإنجاز الاستحقاق اليوم.

في هذا السياق، بات واضحًا أنّ كل المبادرات تصطدم بـ"فيتو" ترفعه "القوات" تحديدًا، على مبدأ الحوار، تشاركها فيه بعض أطراف المعارضة، ولكن مع المزيد من الليونة والمرونة، حيث يقول "القواتيون" إنّهم يرفضون الحوار أو التشاور، إلا إذا جاء في سياق جلسة انتخابية، وبين دوراتها، وكلّ ما عدا ذلك مرفوض بالنسبة إليهم، لأنه يشكّل تكريسًا لأعراف جديدة مخالفة للدستور، الذي ينصّ على انتخاب رئيس للجمهورية، لا على التوافق عليه.

في المقابل، يصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري والفريق المحسوب عليه على أنّ الحوار أو التشاور هو "مَدخَل إلزامي" لانتخاب الرئيس، وأنّ كلّ الطرق "يجب" أن تمرّ بطريق الحوار، بل إنّ بري يذهب أبعد من ذلك بالقول إنّه لن يدعو إلى جلسة انتخابية إذا لم يلتئم الحوار بالدرجة الأولى، علمًا أنّه يقترح أن يكون الحوار محدودًا ومحصورًا في الزمان، بحيث لا يزيد عن أسبوع واحد، تتمّ بعده الدعوة إلى جلسات متتالية لانتخاب الرئيس.

وأمام هذا التصلّب، ثمّة من سعى للوصول إلى "حلول وسط" كأن تتمّ الدعوة فعلاً إلى الحوار، وتتأمّن الميثاقية لمثل هذا الحوار من دون أن تشارك "القوات" فيه، على أن تشارك في الجلسات الانتخابية التي تليه، وهو ما طرحه مثلاً رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، لكن يبدو أنّه سقط بدوره، مع رفض بري للحوار "بمن حضر"، بحُجّة رفضه "عزل" أي طرف، فإما حوار بحضور الجميع، أو لا حوار بالمُطلَق.

استنادًا إلى ما تقدّم، قد تكون فكرة الانتخابات المبكرة منطقية، ليس فقط لأنّ المسألة أصبحت قصة "نكايات متبادلة"، ولكن لأنّ مجلس النواب بتركيبته الحالية غير قادر على انتخاب رئيس، وبالتالي يفترض أن ينكفئ حتى يأتي مجلس نيابي آخر للعب هذا الدور، لكنّ المفارقة أنّ هذا الطرح "سابع المستحيلات"، وفق توصيف البعض، الذي يذهب لحدّ القول إنّ النواب المطلوب منهم الانكفاء، يبحثون في الواقع، السيناريوهات الممكنة للتمديد لأنفسهم، وليس تقصير ولايتهم.

صحيح أنّ هناك من يعتبر أنّ الانتخابات المبكرة قد تكون حلاً، طالما أصبح واضحًا أنّ المشكلة في مجلس النواب العاجز عن أداء دوره، وبالتالي يفترض العودة إلى من أوكلوا إلى النواب تمثيلهم، لاستعادة التفويض الممنوح لهم، لكنّ هذا الطرح يجده كثيرون "مبالغًا في المثالية"، باعتبار أنّ القاصي والداني يدرك أنّ أيّ انتخابات تجري اليوم لن تأتي سوى بمجلس نيابي شبيه بالحالي، أو مع تعديلات طفيفة لا تكفي لتحدث "انقلابًا" في المعادلات القائمة.

وبالتالي، يرى أصحاب هذا الرأي أنّ إجراء الانتخابات لن يؤدي إلى إنهاء المشكلة، بل سيجدّدها بصورة أو بأخرى، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تعقيد الأمر لا تيسيره، فيما يرى آخرون في المقابل أنّ هذا السبب ليس كافيًا لعدم الذهاب حتى النهاية في طرح الانتخابات المبكرة، طالما أنّ البلد يشهد "أزمة نظام" بأتمّ معنى الكلمة، وقد جُرّب هذا الخيار في العديد من الأماكن، بل إنّ بعض الدول شهدت انتخابات مبكرة متتالية لمواجهة الأزمة.

وبمعزل عن الرأي "الصائب" بين وجهتي النظر المتضاربتين، يقول العارفون إن طرح التمديد لمجلس النواب هو الذي يتقدّم على الانتخابات المبكرة، وقد بدأ الحديث عنه همسًا في الكواليس السياسية، بحُجة الانتخابات الرئاسية نفسها، انطلاقًا من عدم إمكانية إجراء انتخابات نيابية عامة من دون وجود رئيس للجمهورية، فكيف بالحريّ إذا كانت الحكومة الموجودة هي حكومة تصريف أعمال مستقيلة منذ ما قبل الفراغ الرئاسي.

وثمّة في هذا السياق، العديد من الأسئلة التي يطرحها البعض عن "سيناريوهات" الانتخابات النيابية بغياب الرئيس، فإذا كان يمكن الاستعاضة عن توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة بتواقيع جميع الوزراء مثلاً وفق بعض الاجتهادات، من سيجري الاستشارات النيابية التالية لهذه الانتخابات لتسمية رئيس حكومة جديد، أم أنّ الحكومة الحالية تبقى قائمة بصفة "تصريف الأعمال الرئاسية"، حتى بعد الانتخابات؟!.

أمام كلّ هذه "التعقيدات" التي لن يتفرّع عنها على ما يبدو سوى المزيد من التعقيدات، يبدو واضحًا أنّ الخيار الأسهل والأسرع والأفضل يبقى بنزول جميع الأفرقاء عن الشجرة، والذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهورية، فبهذه الطريقة فقط يمكن أن تستقيم المؤسسات الدستورية، ويضمن لبنان بالتالي حضوره في ترتيبات ما بعد انتهاء الحرب، بدل التلهّي بمبادرات خارجية تبتدع "الحلول" ليقبل اللبنانيون بالجلوس على طاولة واحدة!.