تدعونا أيقونة حدث البشارة الإلهيَّة بحبل مريم العذراء من الروح القدس بالربِّ يسوع المسيح إلى الدخول في التدبير الإلهيِّ الَّذي يفوق المنطق البشريَّ، ولا يُفهم إلَّا بالمنطق الإلهيِّ، منطق المحبَّة اللامحدودة والتضحية وبذل الذات.

تُظهِرُ لنا الأيقونةُ شخصَين يتقابلان وجهًا لوجه. هما ليسا من الطينة نفسها، الملاك جبرائيل من السماء ولا هيوليّ، بالمقابل العذراء مريم إنسانة ومن الأرض.

مهلًا! مَن قال إنَّ الإنسان هو فقط من الأرض وترابيٌّ صرف.!

لا، الإنسان فيه شيء إلهيٌّ أي فيه نسمة إلهيَّة لا تموت، لذا، الموطن الأوَّل للإنسان هو السماء، وهذا هو محور البشارة وأيقونتها، جبرائيل مرسل من السماء حاملًا للعذراء، ولنا جميعًا، أجمل بشارة في الكون كلِّه، ألا وهي: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوَّة العليِّ تُظلِّلكِ، فلذلك أيضًا القدُّوس المولود منكِ يُدعى ابن الله» (لوقا 1: 35).

يا لهذه العبارة: «القدُّوس المولود منكِ يُدعى ابن الله»!.

كيف يمكن للَّه أن يكون له ابن؟ ألا يصير عندئذٍ مثلنا؟ أليس هذا تشريكًا لألوهيَّته؟ أليس هذا تجديفًا وتدنيسًا لجلاله؟.

لا وألف لا. كلمة ابن هنا لا تعني إطلاقًا ولادة بيولوجيَّة، بل تشير إلى الجوهر الإلهيِّ، فالآب والابن والروح القدس واحد في الألوهة، وهم إله واحد، كالشمس وشعاعها وحرارتها، كذلك كالنار والنور والحرارة في شعلة واحدة. وعندما نقول إنَّ الابن مولود من الآب، والروح القدس منبثق من الآب، لا نكون نتكلَّم على تدرُّج في الزمن، بل على ولادة وانبثاق خارج الزمن، أي لم يكن هناك وجود لأحدهم قبل الآخر.

سرٌّ عظيم يُقتَرَبُ منه بالمحبَّة الَّتي اعتلنت على الصليب الَّذي عبر فينا إلى الحياة الأبديَّة. وما يخبرنا إيَّاه حدث البشارة هو التجسُّد الإلهيُّ، أي اتِّحاد الطبيعة الإلهيَّة بالطبيعة البشريَّة في أحشاء فتاة طاهرة نقيَّة متواضعة، عشقت الربَّ وعملت بكلامه وكرَّست نفسها بالكلِّيَّة له روحًا وجسدًا.

هذا الاتِّحاد العجيب، أي صيرورة الله إنسانًا، غيَّرَ وجه المسكونة جمعاء، هو رأس خلاصنا وإعلان السرِّ الَّذي منذ الدهور، كما تخبرنا طروباريَّة عيد البشارة .[1]

هو اتِّحاد بين طبيعتين من دون إلغاء أيِّ واحدة للأخرى. لهذا، فالربُّ يسوع المسيح المولود من العذراء مريم هو شخص واحد، وله طبيعتان كاملتان: إلهيَّة وبشريَّة. كان إلهًا قبل أن يتجسَّد وبقي طبعًا.

هذا تمامًا ما قاله آباء المجمع المسكونيِّ الرابع الَّذين نقيم تذكارهم في الأحد الثالث بعد العنصرة (هذا الأحد). انعقد المجمع سنة ٤٥١ م، ويُعرف باسم المدينة الَّتي جرى فيها، أي خلقيدونية. فقد كتبوا:

"«إنَّ المسيح هو نفسه تامٌّ في الألوهة وتامٌّ في البشريَّة، إله حقٌّ وإنسان حقٌّ. إنَّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريَّة، شبيه بنا في كلِّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلِّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيَّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء والدة الإله، بحسب البشريَّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربُّ، الَّذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متَّحدتين من دون اختلاط ولا تحوُّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربُّ يسوع المسيح"».

هؤلاء الآباء لم يأتوا بشيء واحد من أنفسهم، بل أعلنوا ما قاله الربُّ لنا: «الَّذي رآني فقد رأى الآب»، وأكمل: «صدِّقوني أنِّي في الآب والآب فيَّ، وإلاَّ فصدِّقوني لسبب الأعمال نفسها» (يوحنَّا 14 : 9 - 11).

لنتوقَّف لحظة هنا، تكلَّم يسوع على الأعمال الَّتي يعملها والَّتي تشهد على ألوهيَّته. نعم، فليس لأعماله مثيل، ولا لأقواله نظير، ولا لسيرته شبيه.

هذا هو إيماننا منذ البداية، لهذا، فالمجمع المسكونيُّ الرابع مطابقٌ بالكامل للمجمع المسكونيِّ الأوَّل (٣٢٥ م) الَّذي أعلن بوضوح تامٍّ أنَّ الربَّ يسوع المسيح هو «إله حقٌّ من إله حقٍّ، مولود غير مخلوق»، وذلك دحضًا لهرطقة آريوس الَّذي رفض ألوهة المسيح لأنَّه لم يفهمها، فعوض أن يرتفع بفكره إلى الله، حدَّ الله بفكره البشريِّ غافلًا عن أنَّه مخلوق وأنَّ الله هو الخالق.

وهنا يجب الانتباه إلى أمر جوهريٍّ وأساسيٍّ، وهو أنَّ المجامع المسكونيَّة في الكنيسة، تنعقد لتوضيح الإيمان المستقيم ودحض الهرطقات، وإعلان الإيمان المسلَّم لنا من التلاميذ الَّذين تسلَّموه من الربِّ مباشرة. لهذا، فالمجامع جوهرُها واحد.

هذا تمامًا ما فعله الرسل وبولس، فكانوا دائمًا يشرحون الإيمان الحقيقيَّ للناس، ويحذِّرون من الهراطقة. مثال على ذلك تأكيد يهوذا الرسول (غير الأسخريوطيِّ) أنَّ الإيمان سُلِّم مرَّة إلى القدِّيسين، وتحذيره من الَّذين ينكرون الربَّ يسوع المسيح.

خلاصة، الإيمان المستقيم محفوظ في الكنيسة بالروح القدس، ويُسلَّم من جيل إلى جيل بالروح نفسه، وعصر الآباء القدِّيسين مستمرٌّ به.

إلى الربِّ نطلب.

[1]. اليوم رأس خلاصنا و إعلان السرِّ الَّذي منذ الدهور، فإنَّ ابن الله يصير ابن البتول وجبرائيل بالنعمة يبشِّر، لذلك نحن معه فلنهتف نحو والدة الإله: افرحي أيَّتها الممتلئة نعمة، الربُّ معك