قبل أسابيع، أطلق رئيس مجلس النواب نبيه بري تصريحًا وصف فيه شهر تموز الحالي بـ"المفصلي والمصيري"، ليسارع بعد ربط تصريحه بالتكهّنات حول احتمالات اندلاع الحرب الشاملة في لبنان، إلى التوضيح أنّه قصد الاستحقاقات السياسية أيضًا، بما في ذلك انتخابات الرئاسة المؤجَّلة منذ العام 2022، والتي ستصبح بحكم المؤجّلة من جديد إلى العام 2025 ربما، إن مرّ الشهر من دون انتخاب من يستلم الدفّة من "فخامة الفراغ".

لكن، قبل أن يمرّ منتصف شهر تموز، بدأت معالم "التأجيل" بالظهور بصورة أو بأخرى، خصوصًا بعد محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي خطفت الأضواء، وخلطت كلّ الأوراق، وجعلت كل الاهتمام منصبًّا على الحملات الرئاسية الأميركية قبل الأوان، فهمّشت معها كلّ الملفات والاستحقاقات الأخرى، حتى إنّ هناك من يقول إنّ التسوية التي كانت قاب قوسين أو أدنى في غزة، أضحت "ضحية" حادثة ترامب.

وفي السياق نفسه، بدا واضحًا أنّ الملف اللبناني لم يعد، وربما لم يكن أساسًا، ضمن "الأولويات"، لا على مستوى التسوية المؤجّلة في الجنوب، ولا على مستوى استحقاق الرئاسة، الذي غابت "محرّكات" اللجنة الخماسية عنه في الفترة الأخيرة، بعيدًا عن "اندفاعة" السفير المصري التي تبدو "فردية وذاتية"، في وقتٍ يبدو اللبنانيون كمن يلتهي بمبادرات "الوقت الضائع"، وآخرها ما سُمّيت بمبادرة المعارضة، التي حُكِم عليها بالفشل سلفًا.

فعلى الرغم من أنّ المعارضة أصرّت على المضيّ قدمًا في مبادرتها، وجدولت لقاءات مع مختلف الكتل النيابية، بما في ذلك كتلتي "الوفاء للمقاومة" و"التنمية والتحرير" يوم الجمعة، إلا أنّ الوقائع الثابتة تؤكد أنّ أيّ "خرق" لن يتحقق، وأنّ هذه المبادرة ستلتحق بسابقاتها، ما يدفع إلى التساؤل: هل فوّت لبنان الفرصة التي كانت سانحة، وهل أصبح "الربط" بين الرئاسة في لبنان والولايات المتحدة تحصيلاً حاصلاً؟!.

بعيدًا عن الرهان غير المفهوم على ربط الاستحقاقات الداخلية باستحقاقات إقليمية ودولية، كانتخابات الرئاسة الأميركية، رغم أنّ القاصي والداني يدرك أنّ الربط غير موجود إلا في مخيّلة البعض، يشير العارفون إلى أنّ دخول العالم في مرحلة الانتخابات الأميركية ومفاجآتها التي بدأت بمحاولة اغتيال ترامب قد يؤدي إلى "تجميد" الاستحقاق الرئاسي، بانتظار نضوج الصورة الإقليمية والدولية، التي قد تترتّب عليها ظروف مختلفة عمّا هو قائم اليوم.

في هذا السياق، يقول العارفون إنّ هذا بالتحديد ما قصده رئيس مجلس النواب نبيه بري يوم تحدّث عن شهر "مفصلي"، في محاولة لحثّ الأفرقاء على الاستفادة من "الفرصة المُتاحة" قبل أن تضيع، باعتبار أنّ الإجازة الصيفية معطوفةً على انشغال العالم من أقصاه إلى أقصاه بالسباق نحو البيت الأبيض، ستهمّش استحقاق الرئاسة، وستجعل لبنان "آخر اهتمامات" الدول الكبرى التي يعتقد البعض أنّها تمتلك "مفتاح" الرئاسة، ولو أنّ هذه المقاربة تثير الجدل.

وبالفعل، يمكن القول بحسب هؤلاء إنّ محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس السابق دونالد ترامب، على الهواء مباشرة، شكّلت "النقطة الفاصلة" التي نقلت اتجاه "البوصلة"، إن جاز التعبير، من منطقة الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة، حيث ستبقى الأنظار مركّزة حتى نهاية العام، ليس فقط لتحديد هوية الرئيس الأميركي المقبل، ولكن أيضًا لمراقبة الوضع، وسط سيناريوهات تحذر من مجهول، بل من حرب أهلية في الداخل الأميركي.

لا يعني ما تقدّم أنّ "الخرق" لبنانيًا مستحيل، لكنّ ذلك يتطلب توافر إرادة حقيقية لدى مختلف الأفرقاء لإنجاز الاستحقاق، وبالتالي للكفّ عن تضييع الفرص، وهو ما ليس ناضجًا بعد، بدليل اللغط الحاصل حول "مبادرة المعارضة"، لدرجة أنّ اللقاء بين الأخيرة وممثلي "الثنائي الشيعي" أًصبح مادة للاستثمار السياسي حتى قبل حصوله، في استكمال للعبة "تقاذف كرة المسؤولية" التي يبدو أنّ الطرفين لا يجيدان غيرها.

ففي الداخل اللبناني، لا أثر يُذكَر لكلّ المبادرات التي أوحت بـ"جدية"، ولا سيما تلك التي دخل على خطها الخارج، فمبادرة "الخماسية" شبه مجمّدة، ولو أنّ بعض السفراء يحافظون على وتيرة "نسبية" من الحركة، والوساطات المتفرّعة عنها كذلك غائبة، من الوساطة الفرنسية، التي كانت آخر محطاتها "السلبية" زيارة المبعوث الرئاسي جان إيف لودريان الأخيرة، إلى الوساطة القطرية وإن قال البعض إنّها لا تزال حاضرة بشكل أو بآخر في الكواليس.

حتى المبادرات الداخلية التي كان يمكن أن تُحدِث "خرقًا" تبدو غائبة، أو ربما مغيّبة، فمبادرة كتلة الاعتدال التي استندت إليها "الخماسية" مجمَّدة منذ فترة، رغم الحديث المتكرّر عن جولة جديدة يعتزم القيّمون عليها إجراءها على الأفرقاء، ومثلها يبدو مصير سائر المبادرات المتقاطعة معها، كمبادرة الحزب التقدمي الاشتراكي، وحركة التيار الوطني الحر، وقبلهما مبادرة رئيس مجلس النواب، وقد اصطدمت بمجملها بـ"فيتو" من هنا أو هناك.

وحدها تبدو "مبادرة المعارضة" حاضرة في هذه المرحلة، والمفارقة أنّ هذه المبادرة تبدو منذ ما قبل إطلاقها بلا أفق، رغم إصرار المعارضة على المضيّ فيها حتى النهاية، ففريق "الثنائي" مثلاً لم يجد فيها ما يرتقي لوصف "المبادرة"، وحتى من يتموضعون في المنطقة الوسط لم يجدوا في أفكارها ما يبشّر بأيّ خرق، ولا سيما أنها فُهِمت في بعض الأوساط، "تصويبًا" على رئيس مجلس النواب، بدل محاولة التوصل إلى "تفاهم" معه.

أكثر من ذلك، فإنّ اللقاء المرتقب بين المعارضة و"الثنائي" لا يُفهَم على أنه مسعى جدّي للتوصّل إلى تفاهم، بل يوضَع في خانة "التنقير"، إن جاز التعبير، فالمعارضة التي انقسمت في بادئ الأمر حوله، تتوخى منه القول إنّها مدّت يدها للجميع، خلافًا لما يحكى عن "انغلاقها" على هذا الطرف، و"الثنائي" الذي حكم على المبادرة بالسقوط منذ اليوم الأول، لا يتوخى منه سوى التأكيد على التشاور والحوار، بوصفه المدخل الإلزامي للاستحقاق الرئاسي.

في النتيجة، يقول البعض، لا رئاسة ولا من يحزنون، لا اليوم ولا في المدى القريب. فعلى الرغم من أنّ "الأسباب الموجبة" لإنجاز الاستحقاق أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، ومن بينها حضور لبنان في ترتيبات ما بعد الحرب، إلا أنّ "الأسباب الموجبة" لعدم إنجازه، وفق منظور كلّ فريق، تبقى الغالبة، ومنها الرغبة بتحقيق "انتصار" لا يبدو مُتاحًا، وفق المعادلات الحالية، والتي يزيد "الجنون الأميركي" بعد محاولة اغتيال ترامب من تعقيداتها!.