صحيح أنّ الجبهات المفتوحة على مصراعيها منذ السابع من تشرين الأول الماضي، بدءًا من عملية طوفان الأقصى، وما تبعها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة لم تنتهِ فصولاً بعد، وما تفرّع عنها من ساحات قتال بالجملة في جنوب لبنان مع حزب الله، وفي البحر الأحمر مع جماعة الحوثي اليمنية، كسرت عمليًا كلّ قواعد الاشتباك المتعارَف عليها، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ الهجوم الإسرائيلي على مدينة الحديدة اليمنية شكّل منعطفًا آخر في مسار هذه الحرب.

فعلى الرغم من أنّ هذا الهجوم قد لا يكون الأول من نوعه على المستوى الإسرائيلي خارج دول الطوق، إن جاز التعبير، إذ سجّلت العقود والسنوات الماضية العديد من الاعتداءات الإسرائيلية ضدّ أهداف تصنّفها تل أبيب "مشروعة"، بمعزل عن موقعها الجغرافي، وقد تركت هامشًا من الغموض خلف بعضها، بعدم تبنّيها ولو كانت بصماتها واضحة خلفها، إلا أنّه مع ذلك يشكّل خرقًا نوعيًا في المواجهة، وسط المخاوف المتصاعدة من "حرب موسّعة وشاملة".

ومع أنّ محور المقاومة المحسوب على إيران هو الذي روّج لنظرية "وحدة الساحات" في أكثر من مناسبة، إلا أنّ هناك من يرى أنّ إسرائيل هي التي طبّقتها عمليًا بهجومها المباشر على اليمن، لا عبر الوكلاء والحلفاء، وإن جاء قصفها لميناء الحديدة بعد هجوم "حوثي" نوعي استهدف تل أبيب لم يكن بالإمكان تجاهله، كما أنّه يأتي أيضًا بعد تراكمات أحدثها تحرّك الحوثيين منذ بدء الحرب، والذي يقول كثيرون إنّه كان "مؤثّرًا وفعّالاً" إلى حدّ بعيد.

لكن، أبعد من الهجوم الإسرائيلي على اليمن ومعانيه ودلالاته، ثمّة من يسأل عن "انعكاساته" على الجبهة اللبنانية المفتوحة، والتي شهدت في الأيام الأخيرة تصعيدًا مستجدًا، بدأت من مجزرة الجميجمة، وصولاً إلى غارة عدلون، وما بينهما من اعتداءات مستمرّة، فهل من رسائل توجّهها إسرائيل إلى "حزب الله" بالهجوم على اليمن، والذي سارع الحزب لإدانته بوصفه "خطوة حمقاء"، قارئًا فيه بداية "مرحلة جديدة وخطيرة من المواجهة"؟!.

في المبدأ، يمكن الحديث عن رسائل "حربية" أرادت إسرائيل إيصالها من خلال هجومها المباشر على اليمن، للحوثيين بطبيعة الحال، عبر التأكيد أنّ الغارات الأميركية والبريطانية ضدّهم لم تعد تفي بالغرض، ولكن أيضًا لإيران، ومن خلفها لـ"حزب الله"، في سياق الحرب النفسية مع الأخير، وذلك بعنوان أنّها ماضية في المواجهة حتى النهاية، وأنّها جاهزة للرد على مصدر كل اعتداء تتعرّض له، بمعزل عن كلّ شيء.

بهذا المعنى، يمكن فهم الهجوم الإسرائيلي على الحديدة بوصفه رسالة مباشرة إلى الحوثيين، بالكفّ عن التصعيد، خصوصًا بعد ضربة تل أبيب، التي ذهب البعض لحدّ مقارنتها، أقلّه من حيث "الصدمة" التي أحدثتها، بهجوم السابع من أكتوبر، علمًا أنّه ليس خافيًا على أحد أنّ الإسرائيليين منزعجون من طبيعة الحراك الحوثي في البحر الأحمر منذ البداية، ولا سيما أنّه نجح في إحداث ما يمكن اعتباره "حصارًا بحريًا" ترك مفاعيله على عدّة مستويات.

لكنّ ما أرادت إسرائيل إيصاله من خلال الهجوم المباشر على الحوثيين كان أنّ ما يسري على حراك البحر الأحمر لا يسري على هجوم تل أبيب، الذي ما كان يمكن أن يمرّ من دون ردّ مباشر، بمعنى أنّ "تفويضها" أمر الرد على هجمات الحوثيين البحرية إلى ما وُصِف بتحالف "حارس الازدهار" الذي أنشأته الولايات المتحدة بقيادتها، يختلف عن الرد على الهجوم على تل أبيب، لتأكيد رسالة أنّ أيّ تصعيد سيُقابَل بتصعيد مضاد، من دون ضوابط أو خطوط حمراء.

ويؤكد العارفون أنّ الهجوم على الحوثيين في اليمن حمل بين طيّاته رسالة إلى "حزب الله"، ولبنان من خلفه، بأنّ إسرائيل ماضية في المعركة، وأنّها لن تترك أيّ هجوم تتعرّض له من دون ردّ مهما كلّف الأمر، علمًا أنّ "البلبلة" التي حصلت حول موقف الولايات المتحدة ومشاركتها في الهجوم قد تكون معبّرة في هذا الاتجاه، تمامًا كموقف الدول العربية، بما فيها تلك "المطبّعة"، التي لم تكن مرتاحة للتصعيد الإسرائيلي، رغم المواقف "الانفعالية" التي صدرت عن البعض.

وبعيدًا عن الرسائل خلف الهجوم، الذي حذر "حزب الله" من أنّه يأخذ المنطقة إلى مرحلة خطيرة من المواجهة، كان لافتًا للانتباه أنّ الجبهة اللبنانية شهدت بدورها تصعيدًا إسرائيليًا في الأيام القليلة الماضية، بلغ ذروته مع غارة عدلون، التي قيل إنّها استهدفت مخزن ذريعة وأسلحة للحزب، وهو ما يرى البعض أنه ينطوي على "رد ضمني" على آخر خطابات الأمين العام للحزب، وما تبعه من استهداف لمستوطنات جديدة لم يقصفها سابقًا.

في هذا السياق، هناك أكثر من تفسير للتصعيد الإسرائيلي الذي وُصف في مكان ما بـ"الأعنف" منذ بدء الاشتباكات في الثامن من تشرين الأول الماضي، أولها استفزاز "حزب الله"، فالهجوم على الجميجمة مثلاً، والذي استهدف مبنى مأهولاً من ثلاث طبقات، جاء بعد يوم واحد على تهديد السيد حسن نصر الله، بأنّ الحزب سيضرب مستوطنات جديدة لم يسبق أن قصفها في حال أصرّ الإسرائيليون على مواصلة استهداف المدنيين في جنوب لبنان.

في المقابل، ثمّة من يربط بين التصعيد الإسرائيلي المستجدّ وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة، حيث يرى البعض أنّ نتنياهو يتعمّد رفع السقف بالتزامن مع هذه الزيارة، لتحسين موقفه التفاوضي عشية الترتيبات الجديدة التي قد تؤسّس لها هذه الزيارة على مستوى المنطقة، ولو أنّ هناك من يعتبر أنّ تنحي الرئيس جو بايدن عن الترشح للانتخابات الرئاسية خلط كلّ الأوراق، فضلاً عن كونه "همّش" الزيارة إلى حد بعيد.

في كلّ الأحوال، يتّفق العارفون على أنّ التصعيد الإسرائيلي الشامل من غزة إلى اليمن مرورًا بلبنان، يوحي وكأنّ تل أبيب "تستدرج الحرب الشاملة"، ولو أنّها لا ترغب بتحمّل مسؤولية "الطلقة الأولى"، إن جاز التعبير، لكن حتى هذا الانطباع يجد من يشكّك به، باعتبار أنّ رفع السقف الإسرائيلي يتمّ لقناعة تل أبيب بأنّ المحور الآخر لا يريد الحرب، وبالتالي أنه لن ينجرّ إلى مواجهة غير مضبوطة، مهما بلغ حجم التصعيد.

لعلّ هنا بالتحديد تكمن الخلاصة. حتى لو بدا أنّ إسرائيل "تستدرج" الحرب، إلا أنّ هذا السيناريو يبقى بعيدًا وفق المعطيات المتوافرة. لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الاحتمالات ليست مفتوحة، لكنه يعني أنّ الأطراف لا تزال "تضبط" تحركاتها وتصرفاتها بقواعد اشتباك ومعادلات غير مُعلَنة، قوامها أنّ التصعيد مستمر طالما أنّ الحرب على غزة متواصلة، على أن يُفتَح باب التفاوض بعد انتهاء العدوان، ليُبنى عندها فقط على الشيء مقتضاه!.