ليس خفياً انه عبر السنوات الطويلة، كان يتم النظر الى الجالية الاسرائيليّة واليهوديّة على انها "بيضة القبّان" في الانتخابات الاميركية، وكان من يحظى برضاها واصوات اعضائها، يدخل نعيم البيت الابيض لاربع سنوات مع فرصة كبيرة جداً لتمديد هذه الفترة الى ثماني سنوات. ولكن المشهد الذي رأيناه بالامس، تحدّث عن واقعة اخرى وعن معطيات متقلّبة، اظهرت للمرة الاولى مدى انقسام الاميركيين حول التعاطي مع اسرائيل بشكل عام ومع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو بشكل خاص، الّذي حاول توحيد الاميركيين حوله بعد الانقسام الذي عانى منه (ولا يزال) في الشارع الاسرائيلي، فإذا به امام المشهد نفسه، حيث كانت كلمته التي القاها في الكونغرس، بمثابة فشل دبلوماسي له، سيعوّضه حتماً بأجندة لقاءاته المبرمجة مع كل من الرئيس الاميركي جو بايدن ونائبته (المرشحة الديمقراطية) كامالا هاريس، والرئيس السابق (المرشح الجمهوري الحالي) دونالد ترامب. ولو كانت الظروف مغايرة، لكان الجميع يتهافتون للقائه لكسب الاصوات في خضم حمى الحملات الانتخابية الرئاسية المستعرة في الولايات الاميركية كافة.

ما حصل مع نتنياهو (بغض النظر عن كلمته التي لم تقنع احداً، والتي اظهرت مدى ضعف حججه وذرائعه لإبادة الفلسطينيين في غزة) في الكونغرس حمل دلالات عديدة، اذ لم يكتفِ الاميركيون في تنظيم احتجاجات خارج المبنى رفضاً لهذه الزيارة وللكلمة، بل كانت مقاطعة نصف اعضاء مجلسي النواب والشيوخ دليلاً مهماً على عدم الموافقة على افكاره وقراراته، وهناك اميركيون-اسرائيليون وآخرون مؤيدون بشكل صارم لاسرائيل، غابوا عن الحضور لعدم اعطاء موافقتهم الشكليّة والمعنويّة على ما يقوم به. مقاطعة رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي من قبل اعضاء في الكونغرس ليست الاولى والمرة الاخيرة التي حصلت فيها، هذه الواقعة كانت في العام 2015 حين كانت اميركا منخرطة في التوقيع مع ايران على الاتفاق النووي (الذي نسفه ترامب من اساسه)، الا انّ عدد الغائبين في حينه اقتصر على 58 ديمقراطياً، فيما الغياب هذه السنة كان في حدود النصف، وهو رقم كبير.

لا شكّ ان هذا الامر لا يؤثر على نتنياهو من الناحية الاسرائيلية، ايّ بمعنى آخر، لن يؤثر على بقائه كرئيس وزراء، او يهدّد حياته السياسية التي يجب الاعتراف بأنّه عرف كيف يحافظ عليها وانقاذها من فمّ الاسد. ولكن، الارتياح الاكبر سيكون للديمقراطيين، لانّ المقاطعة اعطتهم دفعاً معنوياً للتركيز على انّ ما قام به بايدن يصبّ في مصلحة الاميركيين والاسرائيليين على حدّ سواء، وان عدداً من الاميركيين لن يستسيغوا الانتقادات التي وجهها نتنياهو للرئيس الاميركي ووقوفه في وجهه فيما كانت واشنطن تصدّر الاسلحة بكمّيات هائلة الى اسرائيل وتقف الى جانبها في المحافل الاقليمية والدولية. وسيحاول الجمهوريّون في المقابل، تجيير البعض من هذا التعاطف الاميركي مع الديمقراطيين، ليشدّدوا على وقوفهم (ايّ الجمهوريين) الى جانب اسرائيل وليس بالضرورة الى جانب نتنياهو.

الامر المؤكد هو ان مكاسب نتنياهو في السياسة على الصعيد الاسرائيلي الصرف، لا تعني انه نجح في اظهار نفسه على انه حامل اصوات الاسرائيليين واليهود في الانتخابات الرئاسيّة، وعلى الرغم من نجاحه في البقاء في السلطة، الا انّه يتم النظر اليه من قبل الحزبين الاميركيين على انّه مصدر ازعاج وقلق، وليس كما كان سابقاً مصدر تعزيز فرص النجاح، فمن شتّت اصوات الاسرائيليين حوله، ليس بامكانه توحيدها حول مرشح رئاسيّ اميركي يدعمه، والحقيقة ان زيارته الى اميركا لن تقدّم او تؤخّر بالنسبة الى المرشحين الرئاسيين، بل هي فقط لتحسين صورته الداخليّة وارسال رسالة الى من يعنيهم الامر بأنه لايزال على قيد الحياة سياسياً.