تَتَعَطَّشُ المَعرِفَةُ لِلحُبِّ، والحُبُّ عَطَشُ الروحِ.
هي مِحوَرِيَّةُ قُوَّةٍ تَنقُلُ المَعرِفَةَ لِواقِعِ وجوبٍ، والحُبَّ لِوِحدَةِ وجودٍ.
أهيَ مَسيرَةٌ؟ بَل دينامِيَّةٌ، إنطِلاقَتُها أرضِيَّةٌ. وَمُبتَغاها سِعَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ.
في هذا التَأصُّلِ، أسَّسَ الُلبنانِيُّونَ-الفينيقيِّونَ نَقيضَ السائِدِ زَمَنَهُمُ في الغَربِ المُتَضارِبَةِ آلِهَتُهُ بِبَعضِهِمِ على صورَةِ جَشَعِ البَشَرِ في الإستيلاءِ على أرضِيَّاتِ بَعضِهِمِ وَنُفوسِ بَعضِهِمِ. وَما كانَ مُنطَلَقُ أسَسِيَّتِهم إلَّا مِن مُنطَلَقِ تَرابُطِ أقانِيمَ ثالوثِيَّتِهِمِ الدينِيَّةِ (الإلَهُ الأبُ، الِإلَهَةُ الأُمُّ، الِإلَهُ الإبنُ)، بِوِثاقٍ يَمتَلِئُ مِن تَكامُلِ الإنحِدارِ مِنَ السَماءِ الى الأرضِ، والإرتِقاءِ مِنَ الأرضِ الى السَماءِ.
مِن هَذا الكَمالِ-التَكامُلِ، بَزَغَتِ الرياضَةُ بالنِسبَةِ إلَيهِمِ تَوَجُّهاً مِنَ النَفسِ البَشَرِيَّةِ المُجَرَّدَةِ الى واقِعٍ حَيٍّ: مِن صَمتِ التَوقِ الى الثَباتِ في قُوَّةٍ. مِنَ الإيمانِ الى الفِعلِ. مِنَ العَطَشِ الى الإرتِواءِ بِمَصدَرٍ. هُنا، تَنافُسٌ لِرِفعَةِ الفِعلِ في لِقاءٍ بَل لِقاءاتٍ، في رِفعَةِ مُرافَقَةِ أقانيمَ الثالوثِيَّةِ الإلَهِيَّةِ الراوِيَةِ الوجودَ بالقِيادَةِ، بالعَطاءِ، بالمُبادَراتِ.
هو تَدبيرُ مُطابَقَةٍ بَينَ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ والقُوَّةِ الإلَهِيَّةِ...بَينَ المُتَناهِيَ واللامُتَناهِيَ.
مِن هَذا التَسامِيَ في التَماثُلِ، أصَّلَ الفينيقِيُّونَ-الُلبنانِيُّونَ الرِياضَةَ جَذراً إيمانِيَّاً، فَبَنوا حَلَباتَ الرياضاتِ المُتَنَوِّعَةِ بالقُربِ مِن هَياكِلَ العِبادَةِ أو في فَناءاتِها.
ها في صورَ، حَلَبَةُ مُصارَعَةٍ وَمُلاكَمَةٍ وَوَثبٍ (Palaestra) وَصالَةٌ رياضِيَّةٌ مُغلَقَةٌ (Gymnasium) لِلرَكضِ وَرَمي القُرصِ أوِ الرُمحِ، مُلاصِقَتانِ لِرواقٍ مُزدَوِجٍ بِطولِ 200 م وَعَرضِ 11 م لِتَمرينِ العَدَّائينَ في الأيَّامِ الماطِرَةِ أو الحَارَّةِ جِدَّاً، يَصِلُ الى هَيكَلِها الأساسِيِّ لِلإلَهِ إيلَ-مِلكارتَ.
وإذا كانَت أوروبا إبنَةُ مَلِكِها أجينورَ أعطَت إسمَها لِقَارَّةِ الغَربِ، فَفي أولِمبيا-الإغريِقِيَّةِ على جَبَلِ أولِمبوسَ، بَنى أبناؤها في القَرنِ السادِسَ عَشَرَ قَبلَ الميلادِ هَيكَلاً لِمِلكارتَ-إيلَ في القِمَّةِ الأَسموها El-is أيِّ المَكانِ العالِيَ الصارَ يُدعى أرضَ إيلَ، على ما يَذكُرُ فيلونُ البيبلوسِيُّ وَيوسيفوسُ فلافيوسُ الرومانِيُّ-اليَهودِيُّ.
طُقوسُ التَمَركُزِ
في الهَيكَلِ، تَتَمَركَزُ النَفسُ على دُروبِ الروحِ، وَفي المَلاعِبَ يَتَمَركَزُ الجَسَدُ لِتَحقيقِ الروحِ في النَفسِ.
تِلكَ مُعادَلَةُ الُلبنانِيِّينَ-الفينيقِيِّينَ الأرساها المَلِكُ الإغريقِيُّ، الصورِيُّ الأصلِ، إيفيتوس Ίφιτος، بالتَعاونِ مَعَ مُشَرِّعِ إسبارطَةَ ليكورغوسُ Λυκούργος لِتَوحيدِ مُدُنِ الإغريقِ المُتَنابِذَةِ وآلِهَتِها المُتَهافِتَةِ على تلاغيَ بَعضِها البَعضِ... وأسماها: الأولِمبيادُ. وإذ أقامَها على إحتِرامِ القِيَمِ وأخلاقِيَّاتِ التَنافُسِ الرِيَاضِيِّ الحَضارِيِّ، فإنَّهُ صاغَ لَها 14 مَبدأً لِضَمانِ أبعادِها السَلامِيَّةِ.
أطُقوسُ تَمَركُزِ هيَ الأولِمبيادُ؟ بَل ثَقافَةُ حَياةٍ وَتَقاليدُ تأصُّلٍ، أرسَتها المُدُنُ-الدوَلُ الفينيقِيَةُ-الُلبنانِيَّةُ (مِن صورَ وَصَيدا وَبيبلوسَ... وصولاً الى عِمريتَ وأروادوسَ وأنترادوسَ وَلَمِراتوسَ القَديمَةِ...) ‒فَما تَقاتَلَت في ما بَينَها يَوماً‒، وإلتَزَمَ بها الإغريق مُكَرِّسينَ في دَوراتِها هُدنَةً. وَهي أساساً لَم تَكُنِ الأولى، بَل سَبَقَتها دَوراتٌ أقامَها الفينيقِيُّونَ-الُلبنانِيُّونَ مَوسِمِيَّاً في إغريقيا القَديمَةِ. وَمِنها: ألعابُ قُدموسَ في كورِنثوسَ، وإيلوسينيا في أثينا، وأوديبوسَ في كورِنثوسَ، وَهيرا في أولِمبيا... وَقُدموسُ، وَبَعدَ مُرورِهِ بِجُزُرِ المُتَوَسِّطِ وإنشائِهِ فيها مُستَعمَراتٍ، بَحثاً عن شَقيقَتِهِ أوروبا التي إختَطَفَها زوسُ إلَهُ آلِهَةِ الإغريقِ المُتَيَّمِ بِها، وَصَل الى كورِنثوسَ وأقامَ فيها إحتِفالاً دينِيَّاً كَبيراً، تَخَلَّلَتهُ مُبارَياتٌ رياضِيَّةٌ مُتَنَوِعَّةٌ مَنَحَ فيها سِتَّةَ أكاليلَ غارٍ لِلفائِزينَ.
وَلِتَخليدِ تِلكَ الأولمبيادُ الُلبنانِيَّةُ-الفينيقِيَّةُ، أنشَدَ الإغريقُ تَكريماً:
"فِتيَةُ مِلكارتَ-إيلَ ما هانوا وَلا إستَسلَموا
لِلزَمَنِ نَسَجوا زَمَناً آخَرَ
وَبِدِمائِهِمِ وَهَّجوا خَمائِرَ الأزَلِ
حَتَّى عُشبَ الآفاقِ جَعَلوهُ رَعشَةً
والشَمسُ أصابوها بِغِواياتِ الأمَلِ..."
لبنانُ؟ يا لَهُ مِن أبَدٍ!