ان عودة الجيش الإسرائيلي لإحتلال غزة بعد عملية طوفان الاقصى اواخر تشرين الأول 2023 بهذا الشكل من الدمار الدموي، علماً ان اسرائيل كانت انسحبت منها عام 2005 في عهد آرييل شارون، هذا الأمر شكل عودة الى المربع الأول، مع انتكاسة كبيرة للجيش الإسرائيلي الذي انسحب من هذه المنطقة وهو الذي تقوم عقيدته على القوة والردع.

عندما انسحب شارون اعتبر ان غزة بمثابة ثقل وعبء كبير على الجيش الإسرائيلي الذي كان يتكبد خسائر يومية بصفوفه، وهي عبء كبير على السياسيين والمسؤولين وخاصة شارون الذي يعتبر دموياً وعنيداً، فكانت اول نقطة أنّ إسرائيل هي الخاسر الأكبر في حرب طوفان الاقصى هذه الحرب القائمة على الفلسطينيين التي بدأت في 7 تشرين الأول عام 2023 ولازالت مستمرة.

حالياً تحاول اسرائيل في عهد رئيس وزراء الحرب الاسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الدموي الآخر والعنيد والمجرم كشارون البحث عن إنتصار شكلي لكي يحفظ معنوياته ويتجنب نهاية سياسية او دخول السجن، لأن حرب غزة أدخلته بطريق مسدود ولم يستطع حتى الآن من تحقيق أي انتصار، دخل الى القطاع بعد ان دمر فيها كل شيء ولم تعد صالحة للعيش الا انه لم يستطع ان يقضي على حماس كما وعد منذ بداية الحرب.

فالنقطة الأولى إذاً عودة إسرائيل الى غزة بعدما انسحبت منها مرغمة منذ 18 عاماً وهي الخاسر الاكبر حتى الان، النقطة الثانية ان نتنياهو وقع في ورطة كبيرة وعميقة لأنه فقد عامل الردع وفقد القوة التي كانت ترعب العرب، والتي كان يقول الجميع أن لاسرائيل الجيش الذي لا يقهر ويخيف الجميع، اليوم اصبح يُقهر وفقد الهيمنة وخاصة ما يسمى بالعلم العسكري هيمنة التصعيد، حيث كانت تل أبيب دائماً تعلي سقف التهديدات والضربات التي لم تعد تنفع اليوم مع شعب طالباً الموت شهادة بكل ثقة واعتزاز، فما فعلته إسرائيل عام 2006 رداً على عملية اسر الجنديين من قبل حزب الله في خلّة وردة ليحرر بهم اسراه، حيث دمرت البنى التحتية اللبنانية والجسور وعشرات الاف الابنية والمصانع ومعامل الكهرباء وقتل اكثر من الف مدني في 33 يوماً، ولم تتمكن من استعادة جندييها ولا نزع سلاح حزب الله او إبعاده عن الحدود، وبالتالي لم تربح الحرب فعادت مرغمة الى المفاوضات غير المباشرة لإجراء صفقة تبادل، هنا يبرز فشل الردع الاسرائيلي وفشل هيمنة التصعيد ضد حزب الله ولبنان، فكما هددت بالقصف هدد حزب الله بالرد واعترف بجهوزية 200 الف صاروخ وتم استعمال المئات منها، وهذا ما فعلته حماس في طوفان الاقصى بإمطار مستوطنات غلاف غزة بالاف الصواريخ، وهكذا دخل الصراع مع إسرائيل مرحلة التوازن الردعي.

أما النقطة الثالثة من تداعيات هذه الحرب هي ان القبة الحديدية التي تتغنى بها إسرائيل وان لديها قدرة على إعتراض الصواريخ أيضاً فشلت، لان ما ساهم بتخفيف حدة الصواريخ على "اسرائيل" هي الاساطيل الأميركية والبريطانية والالمانية التي هرعت الى البحر المتوسط بمجرد إعلان حماس عن عملية طوفان الاقصى، فكان نظام الردع الإسرائيلي سيفشل لوحده وعليه فإن إسرائيل اصبحت مكشوفة اذا ما تركت وحدها بدون دعم وحضور ميداني غربي.

ولكن عقيدة إسرائيل ليست كذلك، فعقيدتهم تقوم على الهيمنة والقوى الذاتية والردع الذاتي كحركة صهيونية لها جبروتها الأعلى على كل شعوب الكرة الارضية، فإن إسرائيل الان بورطة عقيدة وأزمة ثقة وجودية سيما ان المقاومة اللبنانية والفلسطينية واليمنية والعراقية تمتلك صواريخ تطال كل النقاط الحيوية الإستراتيجية في إسرائيل وهي عاجزة عن ردعهم وتأمين امن المستوطنات بل وقعوا في النزوح والتهجير.

استناداً الى ما ذكرناه سيما بالنزوح الحاصل داخل الكيان، فان إسرائيل خسرت سيادتها على الجزء الشمالي كدولة وعلى غلاف غزة وعلى العديد من المستوطنات وهذا الكلام اكده وزير الخارجية الأميركي بمقابلة ان المستوطنين لا يشعرون بالامان حتى يعودوا الى منازلهم، فمن دون العمل على مواجهة هذا الشعور لن يكونوا قادرين على العودة الامنة، وهذا ما تؤكده كل يوم اسرائيل بمطالبتها ابعاد حزب الله 7 كيلومتر عن حدود الشمال، وهذا ما تأتي لاجله الوفود الدولية إسبوعياً خشية توسيع رقعة الحرب وتهدئة الجبهة الشمالية لعودة المستوطنين، لأن الأمن والإستقرار هو المعيار الوحيد لحياة الإسرائيليين في هذه المناطق.

إسرائيل ضُربت ايضاً بفشل استراتيجي لانها كانت تعتبر ان الاستيطان على الحدود هو شرط أساسي لقيام مجتمع آمن للمستوطنين لكن نرى اليوم بغلاف غزة و الحدود الشمالية مع لبنان قد تم اجلاء السكان كما غادر الكثير منهم الكيان، لذلك اصبحت المستوطنات لا تشكل حزام امان، وهذا الامان انهار جداً وتبخر الردع بعد طوفان الاقصى.

إسرائيل تريد سحق حماس وإعادة إحتلال غزة، وتحييد حزب الله وليس القضاء عليه لانها تعجز عن ذلك، وتريد إعادة الشعور بالامان والثقة للمستوطنين، وإقناعهم بعدم فقدان الثقة بالجيش الإسرائيلي القادر دائماً على الدفاع عنهم وإحياء السيادة التي انهارت بهذه المناطق واعادة تثبيت الردع لضمان الامن في هذه المناطق بزوال تهديد حزب الله وحماس.

في النقطة الرابعة نقول لقد اصبح من السهل على كل الجهات الفاعلة في محور المقاومة ضرب إسرائيل وتشكيل تهديد وجودي لها، لأنه بعد خمسين عاماً على توقيع كامب دايفد واوسلو ووادي عربة والتطبيع العربي واتفاقات إبراهام لا تزال الشعوب العربية تعتبر إسرائيل العدو الاول وتريد تدميرها، هذا هو الخطر الوحودي الحقيقي على الكيان الاسرائيلي، مما يؤدي الى القول بأنه اصبح دولة منبوذة بالمنطقة بالرغم من كل الإتفاقيات التي لم تنجح إلاَّ مع الانظمة، وقد اصبحت منبوذة من الشعوب العالمية ودليلٌ على ذلك التظاهرات المليونية التي قامت في بريطانيا واميركا وفرنسا واغلب الدول في العالم ضد الابادة الجماعية في غزة.

نعم، انه تحول اساسي في الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين حيث ان الطرف الإسرائيلي اصبح متهماً بشكل فاضح من قبل شعوب الأرض كافة انها دولة عنصرية، وبالمناسبة فان هذا الإتهام قديم منذ عام 1975 إلاَّ ان العرب سحبوا التهمة بسبب الدخول بمفاوضات مدريد، إلا انها تعيد لتؤكد المؤكد انها دولة عنصرية فاشية دموية ضد العرب.

صحيح ان هناك مشروع لوقف إطلاق النار تدور مباحثاته في قطر بين المصريين والأميركيين وإسرائيل بحضور وفد من حماس الذي وافق على مبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن، إلاَّ ان التجارب اكدت انه لا يوجد حل في الافق لأن رئيس وزراء الحرب الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد عزمه القضاء على حماس ونيته البقاء في غزة وهو يبحث عن سيناريو كيفية حكمها، إلاَّ ان قوى المقاومة أثبتت بجدارة قدرتها على الردع وفرض التوازن وقلب المعادلات لصالحها.