"يا قاتِلَةَ الأنبياءِ وراجِمَةَ المُرسَلينَ إليها، كَم مَرَّةً أرَدتُ أن أجمَعَ أبناءَكِ، كَما تَجمَعُ الدَجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيها! فَلَم تُريدوا" (متَّى 23/37). "لَيتَكِ عَرَفتِ... طَريقَ السَلامِ! لَكِنَّهُ حُجِبَ عَن عَينَيكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعدَاؤُكِ بِمِترَسَةٍ وَيُحدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِن كُلِّ جِهَةٍ وَيَهدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ وَلاَ يَترُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ لأَنَّكِ لَمْ تَعرِفِي زَمَانَ إفْتِقَادِكِ" (لوقا 19/42-44).
هو المَسيحُ الداخِلُ إليها، في إكتِمالِهِ مِنَ "الألِفِ" الى "الياءِ." في بُلوغِ "اللوغوس" الحَيِّ ذُروَةَ مِعناهُ. في تَجلِّي لامَحدودِهِ لِأبعَدَ مِن ذاتِهِ. يَصرُخُ بِها... وَيَبكي عَلَيها.
وهي أورشَليمُ. ناكِرَةُ ذاتَها. نَكِرَةُ بُلوغِ الأُلوهَةِ صَيرورَةَ الأنسَنَةِ في غايَتِها.
يا لَهَولِ رَفضِها لِجَوهَرِها! لِذاكَ القَصدِ-الأساسِ الذي لِأجلِهِ بَناها أبناءُ صورَ مُنذُ قُرابَةِ 3000 سَنَةٍ، على حَدَّينِ: خَطِّ إنتِهاءِ البَحرِ، وَخَطِّ إنطِلاقَةِ الصَحراءِ. في نُقطَةِ إلتِقاءِ السَيرِ نَحوَ العُمُقِ. لِتَكونَ على صورَةِ لبنانَ وَمِثالِهِ: مَدى حَجِّ الغُربَةِ والغَرابَةِ، المُخاطَرَةِ والسُكونِ، الِلقاءِ والرُكونِ. مَدى إسراءِ الأرضِ وَمِعراجِها لِلسِماءِ... تَطبيقاً لِدَعوَةِ إيلَ (الإلَهُ الأبُ) لِأبنائِهِ: "يروشَليمَ"-"يروشَلاييمَ"، "يروسَليمَ"-"ياروسوليما"، Our-Shalem وَمِعناها (أورو-يرو: أساسُ-تأسيسُ) شائيل-ساليم (إيلُ-السَلامُ).
أّلحِقدُ لاحَقَها؟ طارَدَها، فإحتَلَّتها قَبائِلُ قَبائِلُ: الفَلِسطو والعِبرانِيُّونَ. أُولَئِكَ تَبارَزوا بِها دُروعاً بَشَرِيَّةً لِسَفكِ دِماءٍ، وَهَؤلاءُ إستَهوَدوا فَرَصَدوها هَيكَلاً فيهِ بالعُنفِ تألَّهوا. أُولَئِكَ تَعَرَّبوا وَبِها تَسَتَّروا فإستَطابوا، وَهَؤلاءُ بِها أسباطٌ إستَطابوا فَتَحَصَّنوا.
يا لِلَعنَةِ الحِقدِ اللاغيَ الأُلوهَةَ والمُحَجِّرَ الإنسانَ! لِذَلِكَ الرَفضِ الناحِرِ لِلروحِ في الهَوِيَّةِ: هَوِيَّةِ اللهِ وَهَوِيَّةِ الإنسانِ. الروحُ المُوَحِّدُ بَينَ الإثنَينِ في الحَقِّ. في الحُرِيَّةِ. إذ اللهُ-الحَقُّ في أسَسِيَّةِ الإنسانِ، والإنسانُ-الحُرِيَّةُ في جَوهَرِ أُلوهَةِ اللهِ.
هُمُ أبنَاءُ صورَ بَلَغوا ذاكَ الطَريقَ المُتَرادِفَ. المُتَلاقِيَ. المُتَبادَلَ. ذاكَ الطَريقَ ألمِن لبنانَ لِلأرضِ. لِلسَماواتِ، الطَريقَ المُضنيَ لا بالعَثَراتِ بَل بإجتِيازِ عَواصِفَ الظَلامِيَّاتِ. فَحَقَّقوا ما حَقَّقوهُ مِن لبنانَ الى أقاصِيَ الخَليقَةِ-المَخلوقَةِ.
نَهَمُ الغَنيمَةِ
لِأورشَليمَ، كانَ لبنانُ الخَيرَ-الوَديعَةَ في قَلبِ الداجِياتِ المُتَحاقِدَةِ بالأرياحِ، فيما هي تَفاقَمَت في نَهَمِ الغَنيمَةِ. إذ القَبائِلُ القَبائِلُ غازِيَتَها إستَحوَذَتها لَها، وَتَرامَت مُتَقاتِلَةً على أشلائِها المَنهوبَةِ بِها... وَلَها. قَبائِلُ حَوَّلَتها مَقَالِيعَ، وَقَبائِلُ يَهوَتها صَرعَىً. هَذِهِ خَشِيَت حَقيقَةَ اللهِ، وَتِلكَ أرعَبَت حَقيقَةَ الإنسانِ. وَلِكُلٍّ مِنها نِهايَةُ أزمِنَةٍ. لِتِلكَ نِهايَةٌ كُلُّ ثَمانينَ، وَلِهَذِه نِهاياتٌ في كَونِيَّةِ الَلحَظاتِ العابِراتِ.
وَحدَهُ المَسيحُ، حامِلُ إسمَ إيلَ ‒هو العَمَّانوئِيلُ أيّ اللهُ مَعَنا‒، دَخَلَها لا غازِياً، لا فاتِحاً. لا ماحِقاً، لا مُبيداً. بَل مُخَلِّصاً. مِن نَكرِها. مِن مَكرِها. رِسالَتُهُ عاشَها خارِجَها: في البِقاعِ المُسَماةِ جَليلَ الأُمَمِ، ألبَناها أبناءُ لبنانَ مِن صورَ وَصَيدا وَبيبلوسَ العاصِمَةَ الروحِيَّةَ.
لَم يأتِ إلَيها إلَّا حينَ الرِسالَةُ بَلَغَت أعماقَ مَن في تِلكَ البِقاعِ فَتَجَّذَرَت فيهِمِ الى الأقاصِيَ: الحُرِيَّةُ عِشقٌ لا إيحائِيَّةٌ. زُهدٌ لا جاهِلِيَّةٌ. جَذرِيَّةٌ لا مُعتَصَماتٌ قَبَلِيَّةٌ.
لَم يأت إلَيها إلَّا لِيُحَرِّرَها مِن نَهَمِ الدِماءِ بِدَمِهِ، وَغَنيمَةِ التأليهِ بِذاتِهِ القُدسِيَّةِ-القُدُّوسَةِ. مِنَ لاوَعيِها الى وَعيِهِ.
هو حَمَلَ إلَيها لُبنانِيَّتَهُ الكَرَّسَها في قانا، وَكَرَّسَتهُ مِن تُخومِ صورَ وَصَيدا الى سَفحِ حَرَمونَ. لُبنانِيَّتُهُ ألقَبِلَتهُ بِثالوثِيَّتِهِ: الصَوابُ الخَلاصِيُّ، والتَماهيُ الوجودِيُّ، والتَحاكِيُ الروحِيُّ. لُبنانِيَّتُهُ الوِحدَةُ-الأَحَدُ: سامِيَّةُ الرَفدِ والتَرافُدِ.
وَهي أبَت خَلاصَها. صَلَبَتهُ.
هو قامَ في اليومِ الثالِثِ...
وَهي شَريدَةُ التَسافُكِ الإبادِيِّ القَبَليِّ-القَبَليِّ... الى المُنتَهى.