هل حقق البطريرك الطوباوي البطريرك الماروني أسطفان الدويهي المؤرخ "الصلة بزمانه" كما يقول هيغِل؟ وذلك من خلال كتابه "تاريخ الأزمنة"؟!.
العبرة الأولى التي يُعطينا إياها علم التاريخ هي ان المؤرخ يدرك وربما بطريقة غير مباشرة إن الأحداث المؤثِرة لها بداية و"مُنتصف طريق" ونهاية، وهي تندرج في ثمة مسار (itinéraire) زمني ليس فيه قواعد ثابتة كسائر العلوم، ولكن الثابت فيه هو استمراريّة العبور أو الصلة بالزمان من الماضي إلى المستقبل .
اذا عُدنا إلى كتابه "تاريخ الازمنة"، نجد ان الطوباوي الدويهي لا يكتب بعصبيّة، وان كان موقفه من المرحلة الإسلاميّة هو موقف "المتفرّج" في القسم الاول من كتابه، بينما يتطوّر موقفه في القسم الثاني منه إلى موقف المَعني المباشر بالتاريخ الإسلامي (دون أن ينتمي اليه)، وبذلك كان الدويهي المؤرّخ، الذي وجد ان تاريخ لبنان الحضاري بات حافلا بتأثير العالم الخارجي فيه منه بتأثيره هو في العالم الخارجيـ خاصة وانه خرّيج المدرسة المارونيّة في روما، وقد جمع في كتابه المذكور لأول مرّة المصادر الشرقيّة والمصادر الغربيّة وبتأثير من النهضة الأوروبيّة.
لقد أدرك البطريرك الدويهي ان مسار تاريخ شعب لا يتكوّن بالمشاهدة فقط، بل بالقدرة على تفسير الأحداث على طريقة ممارسة التاريخ من خلال القرارات التي يتخذها المُمارس. لقد حمل مسؤوليّة التاريخ الذي يمارس تفسيراً وقراراً وهي الدلالة على عمق الصلة بين وجدان الفرد والوجدان التاريخي .
لا بل يضيف الدويهي صلة "المُرشد" على شعبه إلى "المشاهدة" أو "الممارسة" وهي الصِلة التي تخوّل المؤرّخ ان "يخرج من ذخائره الجديد والقديم".
لم يكن الدويهي فقط ذلك المؤرّخ الذي أدرك ان التاريخ هو حركة وِساطة بين القديم والحديث فقط، بل كان ذلك المؤرّخ الذي "يصنعه" التاريخ عبر الزمن الطويل أكثر من انه كان المؤرخ الذي يصنع التاريخ!.
وهنا اسمح لنفسي بالقول عن البطريرك الدويهي وهو الآن على طريق القداسة، انه كان المؤرّخ الّذي أدرك دور الله ودور الإنسان معاً في تلاحمهما الحياتي (sumbiosis) وتعاونهما العملّي (sunergeia) واختبر ان الله هو سيّد التاريخ والإنسان يصنع التاريخ، ومُمَيّزاً ما يعود إلى كل منهما من مكانة في التاريخ الّذي لا ينتهي في التاريخ بل له معنى لاهوتي وإجمالي (sunchronia) لا يكتمل ويصل الى تمام نضجه إلا في نهايته الأخيريّة ...