على وقع حبس الأنفاس المستمرّ بانتظار الردّين "الموعودَين" من إيران و"حزب الله"، على جريمتي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والقائد العسكري في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي وقت تستمرّ التكهّنات بشأن شكلهما وحجمهما، فضلاً عن توقيتهما، بعد ضرب عشرت المواعيد التي لم تصدق، عاد الحراك الدبلوماسي إلى الواجهة، بصورة لافتة، وعلى جبهتي غزة ولبنان دفعة واحدة.

فبدفعٍ دوليّ تقوده الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب دولتي قطر ومصر، يبدو أنّ مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ستشهد زخمًا جديدًا، ولو كان غير مضمون النتائج، وذلك بعد جمودٍ ساد على مدى الأسابيع الأخيرة، وهو زخم بقي موجودًا بصورة نسبية، على الرغم من المجزرة المروّعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في مدرسة التابعين بغزة، والتي دفعت حركة حماس إلى الدعوة لإلزام إسرائيل بتطبيق ما تمّ الاتفاق عليه، بدل الذهاب إلى جولات تفاوض جديدة.

وفي حين ساد انطباع بأنّ مجزرة التابعين، معطوفةً على موقف حركة حماس، يمكن أن يخفّفا من الاندفاعة المستجدّة نحو المفاوضات، والتي قيل إنّها لقيت تجاوبًا مبدئيًا من إسرائيل، ولو لم تترجم ذلك على الأرض، إلا أنّ هذه الاندفاعة استُكمِلت بالاتجاه اللبنانيّ، مع زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي أقرّ بأنّ الهجمات تصاعدت بين "حزب الله" وإسرائيل منذ زيارته الأخيرة، لكنّه شدّد على إمكانية التوصّل إلى حلّ دبلوماسي للصراع.

وفي حديثه للصحفيين بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، تبنّى هوكشتاين على ما يبدو معادلة "حزب الله" الثابتة منذ فتحه الجبهة، حول الربط مع حرب غزة، حين أعرب عن اعتقاده بأنّ الاتفاق في غزة سيخلق الظروف المناسبة لخفض التوتر بين لبنان وإسرائيل، إلا أنّ ثمّة من يقول إنّ هناك متغيّرات طرأت في الأسابيع الأخيرة، فهل تطوي المفاوضات، إن نجحت، صفحة ردّ "حزب الله" المُنتظَر على إسرائيل، وكيف يتلقفها الحزب في هذا التوقيت؟.

في المبدأ، لا يستبعد العارفون أنّ يكون "إنعاش" المفاوضات في هذا التوقيت تحديدًا، جاء بهدف "طيّ صفحة" الردّين المنتظرين من إيران و"حزب الله" على جريمتي الاغتيال الإسرائيليتين في طهران وفي الضاحية الجنوبية لبيروت، علمًا أنّ الجانبَين يتحدّثان عن ضغوط مورست عليهم في الأيام الأخيرة في محاولة لثنيهم عن الردّ، إلا أنّهم يشيرون إلى أنّ المعادلة واضحة بالنسبة لإيران والحزب، وهي أنّ الردّ "منفصل" عن تطورات الحرب في غزة.

استنادًا إلى هذه المعادلة، فإنّ الثابت في قاموس "حزب الله" وإيران، أنّ الردّ على الجريمتين الإسرائيليتين الفادحتين، حتميّ وبديهيّ ولا نقاش فيه، وهو ما أكّده المسؤولون الإيرانيون في أكثر من مناسبة، كما ثبّته الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في خطابَيه الأخيرَين، ما يعني أنّ الردّ آتٍ، ولو تأخّر، وذلك بغضّ النظر عن نجاح أو فشل المفاوضات حول غزة، لأنّ دفتر الحساب سيبقى مفتوحًا، حتى لو افترضنا أنّ الحرب على غزة انتهت.

رغم ذلك، ثمّة من يضع تأخير الردّ في سياق الاتصالات والمفاوضات القائمة، ولو أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" سبق أن صنّف هذا التأخّر "جزءًا من الردّ، وجزءًا من العقاب"، إذ يقول العارفون إنّ الحزب الذي فتح جبهة جنوب لبنان في الدرجة الأولى إسنادًا للشعب الفلسطيني، لن يقدم على أيّ خطوة يمكن أن تؤثّر سلبًا على إنهاء المأساة المتواصلة في غزة، وبالتالي فهو قد لا يمانع "الاحتفاظ بالرد"، أو ربما "تأجيله"، إلى ما بعد تبلور صورة المفاوضات.

وإذا كان "حزب الله" يراعي بحسب ما يقول العارفون بأدبيّاته، مسار المفاوضات، لأنّ إنهاء حرب غزة يبقى الهدف الأول بالنسبة إليه، كما قال السيد نصر الله في خطابه الأخير، نافيًا أن تكون "إزالة إسرائيل" على جدول الأعمال حاليًا، فإنّ ذلك لا يعني وفق هؤلاء أنّ محور المقاومة مرتاح فعلاً للمسار القائم، أو أنه يعتقد أنّ الاتصالات القائمة حاليًا ستفضي فعلاً إلى حلّ سياسي أو دبلوماسي، لا تزال العوائق أمامه إسرائيلية بالدرجة الأولى.

في هذا السياق، يشكّك الدائرون في فلك "حزب الله" بحقيقة الموقف الإسرائيلي من المفاوضات، ولا سيما أنّ إسرائيل ترجمت ما وُصِف بـ"التجاوب" مع الدعوة الثلاثية إلى استئناف التفاوض، بمجزرة وحشية راح ضحيتها أكثر من مئة فلسطيني، وقبل ذلك، أقدمت على اغتيال من يفترض أنّها تفاوضه للتوصّل إلى حلّ، أي إسماعيل هنية، ولو أنّ هناك من يقول إنّها ندمت على ذلك، بعدما عُيّن يحيى السنوار خلفًا له، وهو المطلوب الرقم واحد بالنسبة إليها.

لكلّ هذه الأسباب، يتحدّث العارفون عن "ريبة مشروعة" من مناخ التفاوض، الذي قد تكون إسرائيل تسعى من خلاله لتمرير المرحلة ليس إلا، وربما لطيّ صفحة الردّ المُنتظر من جانب الحزب وإيران، خصوصًا أنّه بدا واضحًا على امتداد الأيام الأخيرة مستوى الارتباك الإسرائيلي تحسّبًا لهذا الردّ، مع تسجيل أعلى درجات التأهّب والاستنفار في صفوف جيشها، وترجمة ذلك بالتهديد المستمرّ بالحرب.

وثمّة من يقول إنّ هذه "الريبة" تسري أيضًا على التعاطي مع زيارة هوكشتاين إلى بيروت، في هذا التوقيت أيضًا، علمًا أنّ بعض المقرّبين من "حزب الله" استبقوها بحملة على الوسيط الأميركي، الذي "ثبت انحيازه ولم يعد وسيطًا"، وفق هؤلاء، بل إنّ بعضهم ذهب لحدّ تحميل الرجل مسؤولية "تضليل" اللبنانيين قبيل قصف الضاحية، حين ترك انطباعًا، أقرب إلى "الضمانات"، بأنّ الضربة الإسرائيلية ستكون محدودة، وأنّ بيروت لن تُستهدَف.

في كلّ الأحوال، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله"، إنّ المعادلة بالنسبة إليه واضحة، وقد سمعها المبعوث الأميركي وغيره مرارًا، وقوامها أنّ جبهة جنوب لبنان مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحرب على غزة، وانّ العمليات على خطها تنتهي تلقائيًا بمجرد التوصل إلى اتفاق توافق عليه فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدّمتها حركة حماس، ويتضمّن بطبيعة الحال وقفًا شاملاً ودائمًا لإطلاق النار في القطاع المُحاصَر.

لكنّ هذه المعادلة بات لها "ملحَق"، إن صحّ القول، قوامه أنّ الردّ على جريمتي اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر، ليس جزءًا من كلّ ما سبق، وبالتالي فهو يبقى قائمًا، إن تمّ التوصل إلى اتفاق في غزة، أو فشلت المفاوضات، وهذا الردّ هو "دَيْنٌ" على الحزب، الذي يختار وحده التوقيت المناسب له، ليس على قاعدة "الزمان والمكان المناسبين" التي أضحت محطة تندّر، ولكن على قاعدة التصعيد "المضبوط" الذي يتمسّك به الحزب، حتى إشعار آخر...