اعتدنا في لبنان، حين يصاب البلد بأزمة او بضيقة كارثية (وما اكثرها)، ان يتم الغاء امتحانات الشهادة الرسمية والاستعاضة عنها بإفادة مدرسيّة تثبت ان التلميذ نجح في السنة الدراسية التي تابعها ويصبح بالتالي ناجحاً باعتراف الجميع. هذا الاجراء كان، ولا يزال، يلاقي العديد من الاعتراضات التي تشكك بصحة هذه الافادات، وتتهم اصحاب بعض المدارس بممارسة التمييز او الخضوع لمغريات ماليّة او غيرها لاعطاء الافادات الناجحة لبعض التلاميذ.
بالامس، وقبيل بدء المفاوضات في الدوحة بين الاسرائيليين والفلسطينيين لانهاء الحرب في غزة، اعطت الادراة الاميركية "افادة نجاح" لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه "نجح" في تحقيق اهدافه من الحرب والقضاء على "حماس"، اذ جاء في البيان الصادر عن البيت الابيض: "نعتقد أن إسرائيل حققت معظم أهدافها العسكريّة في غزّة ونجحت في إلحاق الهزيمة بحماس". من يطلع على هذه الافادة ويتابع الاوضاع الميدانية والتطورات في القطاع والمنطقة، يعتقد ان اسرائيل خاضت "امتحاناً" في منطقة اخرى، لانّ الاميركيين انفسهم وحتى الاسرائيليين، اضافة الى معظم دول العالم، اكدوا بما لا يقبل الشك ان الاهداف التي وضعتها اسرائيل في هذه الحرب، لم تنجح في تحقيقها، وان "حماس" تعاني من ضعف وتضعضع، لكنها ليست قريبة من النهاية والبعض ذهب الى حدّ القول انها استعادت جزءاً ممّا خسرته خلال الاشهر العشرة الاخيرة. لا يكفي ان تقول واشنطن انّ اسرائيل نجحت في تحقيق اهدافها، كي يصبح هذا النجاح حقيقة.
فأين النجاح في قتل اكثر من 40 الف شخص غالبيتهم العظمى من المدنيين والاطفال والنساء؟ وأين النجاح في عدم القدرة على غزو قطاع غزّة والبقاء فيه بدل تدميره؟ وأين النجاح في عدم استعادة سوى جزء قليل من الاسرى على مدى اشهر من القتال والجهود الاستخباراتيّة والدبلوماسيّة والعسكريّة؟ وأين النجاح في استمرار خسارة ضباط وجنود على يد حماس بالذات وفي مناطق من المفترض ان تكون خالية من مقاتلي هذه المنظمة؟ وأين النجاح في الابقاء على انقسام الاسرائيليين وعدم توحّدهم حول قادتهم السياسيين ورفض الاعتراف بأي انتصار سياسي او عسكري؟.
اما اذا كان الهدف من الاعتراف الاميركي بهذا النجاح، هو تمرير طوق النجاة لرئيس الحكومة الاسرائيلية لكي يكون هناك اختراق ما في المفاوضات، فهذا امر آخر، ولكنه محفوف بالمخاطر ايضاً. ففي حال لم تنجح المساعي لاي سبب من الاسباب، فسيبني نتنياهو هالة له اساسها هذا الاعتراف الوهمي بالانتصار، لاكمال ما بدأه وللقول ان استراتيجيته ناجحة وانه يحمل شهادة اميركية تثبت ذلك، ولن يكون هناك من تبرير او ذريعة لاظهار انه على خطأ. فإمّا ان الادارة الاميركية واثقة تماماً من انها قادرة على احداث خرق مهم في المفاوضات، وإما انها تلعب ورقة "الخرطوشة الاخيرة" كما وصفها رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد لقائه المبعوث الاميركي آموس هوكشتاين في بيروت. ومن اللافت ان يصدر مثل هذا الموقف الاميركي بعد مواجهات دبلوماسيّة قاسية مع نتنياهو لم تبقَ في السر، وبعد ان دفع الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن بكل ثقله لتحقيق "انجاز" في الحرب على غزّة يمكن تجييره الى حزبه الديمقراطي قبل اسابيع قليلة على موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية.
في مطلق الاحوال، ومهما كانت الاسباب، بات نتنياهو "ناجحاً" في المعيار الاميركي، ولو انّ هذا الاعتراف يبقى غير محقّق عملياً ان في الميدان او في الاروقة الدبلوماسيّة العالمية، ولكنه "افادة" يمكن ابرازها عند اللزوم والاستفادة منها في اوقات وظروف محدّدة، علّها تكون الحجر الاول في بناء تسوية تؤدّي الى وقف اطلاق النار، والعودة الى ما كانت عليه الامور قبل عملية "طوفان الاقصى"، واعادة وضع الدولة الفلسطينية... على الرفّ.