الفنّ الإيقونغرافيّ واسع جدًّا وكلّما غصنا فيه، اكتشفنا تصاوير في غاية الجمال، لأنّها تُعبّر عن عمق لاهوتيّ كبير وإيمان يفوق الوصف لا تحدّه كلمات ولا خطوط ولا ألوان. فمستحيل مهما سَمَتْ مفرداتنا وبرع فنّنا، أن نصف بالكلّيّة صيرورة الله إنسانًا، وما سبقه وما تبعه من تدبير إلهيّ.

المحاولات البشريّة كلّها تبقى محاولات وتكتمل في اللقاء، لقاء الإنسان بالربّ. فالله أعلن عن ذاته لنا وأتى إلينا، وما علينا إلّا أن نبادله بالمثل ليتمّ الخلاص، وما أجمل من والدة الإله العذراء مريم مثالًا لنا في ذلك وقدوة. فما قالته لدعوة الله لها أن يتجسّد من الروح القدس ومنها، هو دعوة إلى كلّ واحد منّا أن يولد المسيح فيه، ويرتقي بالتالي إلى عظمة التدبير الإلهيّ للبشر وبهائه وسموّه.

ها نحن، في المقالة، أمام أيقونة (خشبيّة) موجودة في روما من القرن السادس الميلاديّ، لا بل قبل ذلك. نشاهد فيها والدة الإله رافعة يديها متضرّعة، وقد جلبها أحد الحجّاج من القسطنطينيّة، فوُضعت في كنيسة صغيرة بنتْها، على شرفها، مجموعة يونانيّة كانت تعيش، في روما، في القرن السادس الميلاديّ.

لهذه الأيقونة تسميات عدّة منها أيقونة del Rosario وذلك لوجودها في كنيسة Madonna del Rosario في روما منذ العام ١٩٣١م. وقد انتقلت، قبل هذا التاريخ إلى عددٍ من الكنائس الأخرى، وفي كلّ مرّة حملت اسم الكنيسة التي حَوَتْها.

أمّا التسمية الأكثر شيوعًا فهيMaria Advocata . Advocata كلمة لاتينيّة تعني التضرّع - الطلب – التوسّل – الشفاعة Παράκλησις – Paráklisis، وهدف هذا كلّه الحماية.

فرفْعُ يديّ العذراء يجعل الأيقونة تنتمي إلى الأيقونات الوالديّة المتضرّعة والمتشفّعة. ولكون الأيقونة تشكّل التّصوير الأقدم لتضرّع والدة الإله فتسمية Maria Advocata هي الغالبة.

ترفع والدة الإله يديها نحو الربّ يسوع المسيح كما قالت في نشيدها: "تَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي" (لوقا 47:1). فهي تصلّي وتطلب من الربّ المخلّص، وتريدنا أن نبتهج به ونعي خلاصه لنا. وعندما نقول: "أيّتها الفائق قدسها خلّصينا"، لا نقول بأنّنا نطلب الخلاص خارج الربّ، ولا والدة الإله تستطيع أن تخلّصنا خارج يسوع إلهها، بل نحن نقول "بشفاعتك". وأكثر وضوحًا، والدة الإله لا تصلّي عنّا، بل معنا، مع كامل الاعتراف بتقدّمها كما نرتّل ونقول: "يا مَن هي أكرم مِن الشيروبيم، وأرفع مجدًا بغير قياس مِن السيرافيم. يا من هي بغير فساد ولدت كلمة الله، حقًّا إنّك والدة الإله إيّاك نعظم". نحن نعظّم إيمانها وتواضعها وتسليمها الكلّيّ للربّ، كما نعظّم وإيّاها الربّ القدّوس مصدر القداسة.

بالعودة إلى الأيقونة، فهي بطول ٧٠.٢ سم وعرض ٤٠.٥سم. هي مصوّرة (مكتوبة - الفعل في اليوناني تُخَطّ) بطريقة encaustique أي بمزج الألوان بالشمع المذاب الساخن. طريقة صعبة جدًّا تلزمها مهارة كبيرة لدقّتها. خلفيّتها ذهبيّة. طريقة التّصوير فيها شبيهة بالفنّ الفيّومي القديم، نسبة إلى منطقة الفيّوم Fayoum في القسم العلويّ من مصر.

وجه والدة الإله دائريٌّ وعيناها كبيرتان. يمكننا القول، عن ثقة، إنّ التّصوير هنا شرقيّ محض وطابعه من بلادنا، ويندرج تحت الفنّ القسطنطينيّ الأوّل. ترتدي العذراء الثياب الأورشليميّة والتي كانت سائدة في المنطقة–رداء طويل وحجاب (maphorion).

هذه الأيقونة شبيهة بأيقونة (خشبيّة) لوالدة الإله بالتقنيّة عينها، من القرن السادس – السابع الميلاديّ محفوظة في دير القدّيسة كاترينا في سيناء، نشاهد فيها مريم جالسة على العرش وفي حضنها الربّ يسوع، وعن يمينها القدّيس ثيوذوروس وعن يسارها القدّيس جاورجيوس، وخلفها ملاكان ينظران إلى العلى، وفي الأعلى يد الله تبارك.

إذًا، أيقونة Maria Advocata كنز حقيقيّ. وبهدف الحفاظ على ما تبقّى ظاهرًا منها، وحمايته من التقبيل، تمّت تغطية يديها بالذهب، كما أضيف صليبٌ ذهبيّ على كتفها الأيسر.

الملفت بشدّة في هذه الأيقونة النصفيّة لوالدة الإله، أنّ مريم تحدّق فينا، كأنّنا بذلك نسمعها تقول لنا: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ (الربّ) فَافْعَلُوهُ» (يوحنّا 5:2).

توجد على جبين العذراء نجمة إشارة إلى عذريّتها. نجمة Spica في كوكبة Vigro العذراء. هذا كان يرمز في علم الفلك إلى العذريّةVigro - - Virgin - Parthénos - فتاة عذراء.

اليوم نرى ثلاثة نجوم: واحدة على رأس والدة الإله ونجمتين على كتفيها. هذا أيضًا كان رمزَ الملوك والسلالة الإلهيّة لهم لأّنّ الملوك اعتبروا أبناء الآلهة.

آثار وجود مجوهرات على رداءها ومعصميها ظاهرة بعض الشيء. كيف لا وهي الملكة أمّ الملك؟!

يُحكى أنّ هذه الأيقونة كانت تُحمَل في زيّاح مهيب ليلة عيد رقاد والدة الإله (14 آب). الزيّاحات بأيقونات الربّ ووالدة الإله قديمة جدًّا في المسيحيّة ومذكورة في القسطنطينيّة وفي روما وأماكن أخرى.

توجد نسخة عن الأيقونة تعود إلى القرن الحادي عشر تقريبًا في بازيليك Santa Maria in Ara Coeli في روما ومعروفة بالعذراء صاحبة الأيدي الذهبيّة.

هذا الجمال في الأيقونة وأيقونات والدة الإله كلّها وتكريمها منذ القرون الأولى للمسيحيّة، يقولان لنا إنّنا جميعنا مدعوّون إلى أن نسير على درب والدة الإله، فهي إنسانة مثلنا عَشِقَت الربّ وتقدّست بعيشها لكلمته بتواضع وإفراغ للذات للامتلاء منه.

ولها نقول في صلاة البراكليسي: "ليسَ أحدٌ يُسارعُ إليكِ، ويمضيْ خازيًا منْ قِبلكِ، أَيَّتها البتولُ النَّقيَّةُ أُمُّ الإلهْ. لكنْ يَطلبُ نِعمةً، فينالُ الْمَوهَبةْ، بِحسْبِ ما يوافقُ طِلبَتَهُ".

إلى الربّ نطلب.