مجدّدًا، تحوّلت العاصمة اللبنانية بيروت إلى نقطة جذب للموفَدين الدوليّين، الذين "تحدّوا"، إن صحّ القول، دعوات السفارات إلى تجنّب السفر إلى لبنان، على وقع "حبس الأنفاس" بانتظار ردّ "حزب الله" المفترض على ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال القائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، وهو الردّ الذي كرّر الحزب في اليومين الماضيين "ثابتة" أنّه آتٍ حتمًا، بمعزل عن نتيجة مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة.

هكذا، سُجّلت "عجقة" موفدين إلى بيروت في الأيام القليلة الماضية، وتزامنًا مع مفاوضات الدوحة حول غزة، دشّنها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، قبل أن يستكملها وزيرا الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه، والمصري بدر عبد العاطي، وهي زيارات تقاطعت بالمجمل على عنوان "خفض التصعيد" نفسه، ما فُسّر "محاولة ضغط" في مكانٍ ما على "حزب الله"، لعدم الردّ على إسرائيل، بما قد يأخذ الأمور إلى المزيد من الانزلاق.

في مقابل رسائل الموفدين، تمسّك "حزب الله" بحتميّة الردّ، وإن أحاطه بالغموض، من حيث التوقيت، فضلاً عن الحجم، كما واصل رسائله "الاستخباراتية" في سياق الحرب النفسية التي يخوضها مع الجانب الإسرائيلي منذ بدء الاشتباكات، وهو ما تجلّى بفيديو "عماد 4" الذي كشف فيه الإعلام الحربي في الحزب عن منشأة عسكرية تحتوي على عدد من الراجمات الصاروخية والتجهيزات العسكرية، في أنفاق ضخمة مشيّدة تحت الأرض.

وفي حين وضع البعض فيديو "حزب الله" في خانة "منع الضربة الاستباقية" التي يهوّل بها الإسرائيلي في مكانٍ ما، بقي الموقف اللبناني الرسمي شبه غائب، مع إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي التمسّك بـ"الصمت والصبر والصلاة"، فهل تنفع هذه الثلاثية في "منع" الحرب الشاملة، التي تتفاوت التقديرات حول احتمالاتها وسيناريوهاتها، وكيف تُفهَم "عجقة" الموفدين معطوفة على رسائل "حزب الله" المستجدّة في هذا السياق؟.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ الثابت من "عجقة" الموفدين الإقليميين والدوليين إلى بيروت أنّ ثمّة سباقًا متجدّدًا بين الدبلوماسية والحرب، إن جاز التعبير، حيث يريد المجتمع الدولي اغتنام فرصة المفاوضات القائمة حول غزة، والتي يصفها البعض بـ"مفاوضات الفرصة الأخيرة"، لضمان سريان أيّ وقف لإطلاق النار في غزة على جنوب لبنان، بعيدًا عن سيناريوهات الحرب الشاملة، التي قد يقود إليها أيّ ردّ من جانب "حزب الله" في الظرف الحالي.

لعلّ هذا الأمر ينطبق بشكل أساسي على زيارة المبعوث الأميركي، التي كان لافتًا أنّه لم يقرنها على عادته بزيارة إلى تل أبيب، الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول المغزى الأساسيّ منها، علمًا أنّ كلّ التسريبات بشأنها أكّدت أن الدبلوماسي الأميركي أراد دعوة المسؤولين اللبنانيين، ومن خلالهم "حزب الله"، إلى اغتنام فرصة المفاوضات، من أجل الاستعداد لترتيبات التسوية، وهو ما ترجمه بتأكيده على أنّ "لا وقت لإضاعته".

وفي حين وضع كثيرون الزيارة في خانة مسعى الإدارة الأميركية إلى إنهاء أجواء الحرب القائمة في المنطقة، خصوصًا أنّ الرئيس جو بايدن مصرّ على إنجاز وقف إطلاق النار على كلّ الجبهات قبل انتهاء ولايته، فإنّ زيارتي وزيري الخارجية الفرنسي والمصري جاءتا متناغمتين ومنسجمتين مع هذا العنوان، ومن باب التأكيد على أهمية خفض التصعيد، وعدم السماح بتوسيع الصراع أكثر، وذلك بمعزل عن نقاط التمايز بينهما.

فإذا كانت زيارة وزير الخارجية الفرنسي أدرِجت في خانة محاولة باريس تكريس دورها في لبنان، تمهيدًا ربما لإحياء مبادرتها السياسية لانتخاب رئيس للجمهورية يواكب مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، اكتسبت زيارة الوزير المصري أهمية مضاعفة، نظرًا لدور القاهرة المركزي والجوهري في المفاوضات القائمة حاليًا في الدوحة، والتي يبدو أنّ الوسطاء العرب حريصون على أن تكون الجبهة اللبنانية حاضرة على خطها.

وفي حين يرى البعض أنّ رسائل الموفدين الدوليين "تفاوتت" بين الدعوة إلى خفض التصعيد، والتهديد المبطن بإمكانية الذهاب إلى مواجهة شاملة في حال تفويت الفرصة، كما فُهِم من هوكشتاين إلى حد بعيد، يرى العارفون أنّ أداء "حزب الله" جاء مكمّلاً، لا مناقضًا، فتأخّره في الرد، الذي ربطه البعض بتمرير مرحلة المفاوضات، معطوفًا على الفيديو الجديد الذي نشره، يوضَع برأي هؤلاء في خانة تجنّب المواجهة الكبرى، بل "الردع" في جانب أساسيّ منه.

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ فيديو "عماد4" الذي نشره الحزب في الساعات الأخيرة، تحت عنوان "جبالنا خزائننا"، أراد من خلاله التأكيد مرّة أخرى على جاهزيته الكاملة للتصدّي لأيّ حرب يمكن أن يفرضها عليه الإسرائيلي، وذلك من خلال إظهار امتلاكه لصواريخ دقيقة قادرة على الوصول إلى الأهداف التي يحدّدها، علمًا أنّ العارفين بأدبيّاته يؤكدون أنّ ما يظهر في الفيديوهات ليس سوى "غيض من فيض" الترسانة العسكرية للحزب، وهو ما يدركه العدو جيّدًا.

وإذا كان هذا الفيديو الذي شبّهه البعض بفيديوهات "الهدهد"، يندرج بطبيعة الحال ضمن خانة "الحرب النفسية" القائمة مع الجانب الإسرائيلي منذ الثامن من تشرين الأول، وإن بوتيرة تتصاعد حينًا وتتراجع حينًا آخر، فإنّه يحمل بين طيّاته أيضًا بحسب العارفين، مفهوم "الردع" الذي يحرص الحزب على تظهيره، وهو بهذا المعنى يأتي لقطع الطريق على الحديث عن "ضربة استباقية" يمكن أن يقدم عليها الإسرائيلي، "المُرهَق" من التأهّب بانتظار ردّ الحزب الموعود.

استنادًا إلى ما تقدّم، يقول العارفون إنّ الواضح أنّ "حزب الله" لا يزال يسعى بأدائه، إلى "الموازنة" بين إصراره على أنّ الردّ على جريمة اغتيال قائده العسكري "حتمّي ولا جدال فيه" كما قال أمينه العام، وهو آتٍ بمعزل عن تطورات الحرب على غزة، كما يردّد مسؤولوه، وبين عدم رغبته في الانجرار إلى المواجهة الشاملة، وهو ما يظهر جليًا من خلال تريّثه الذي قد يبدو مُبالَغًا به، من باب تجنّب أيّ ردّ "انفعالي"، فضلاً عن استباقه برسائل "ردع" واضحة الأهداف.

إزاء كلّ ما تقدّم، يبقى الثابت أنّ السباق بين الدبلوماسية والحرب لا يزال على أشدّه، سباقٌ يُقرَأ بين سطور زيارات الموفدين الدوليين، كما في الرسائل المتبادلة بين "حزب الله" والجانب الإسرائيلي، الذي يقول كثيرون إنّه يريد الحرب، وإن لم يكن قادرًا على المبادرة إليها، وهو ما يثير تساؤلات مشروعة حول موقف "المواجهة" الرسمي والشعبي، فالمطلوب يتجاوز بالتأكيد ثلاثية "الصمت والصبر والصلاة"، حتى يكون لبنان "محصَّنًا" بالفعل أمام كلّ السيناريوهات!.