مع تمرير الرئيس الاميركي جو بايدن شعلة المنافسة على الولاية الرئاسيّة المقبلة الى نائبته كامالا هاريس بشكل رسمي ليل امس خلال المؤتمر العام للحزب الديمقراطي، حضرت المساعي المبذولة لوقف اطلاق النار بقوّة في كلمته، وكانت عنصراً مهماً في الاستراتيجيّة التي وضعها الحزب للفوز في الانتخابات المقبلة. هذا المنحى اعاد الى الواجهة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي عرف من اين تؤكل الكتف، ونجح في التلاعب بالادارة الاميركية مستغلاً نقاط القوّة التي يملكها لجهة "التصاق" الولايات المتحدة الاميركية باسرائيل مهما كانت الظروف وعدم القدرة على التخلي عنها، اضافة الى سعي هذه الادارة تحديداً في تحقيق خرق اساسي لاعادة التهدئة وكسب النقاط الكافية للتفوّق على المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب. ولم يجد نتنياهو بالتالي أيّ احراج في كلام وزير الخارجية الاميركي انطوني بلينكن الذي قال ان رئيس الحكومة الاسرائيلي وافق على مقترح بايدن ويبقى ان توافق عليه "حماس"، فيما شددت المنظمة الفلسطينية على ان العائق الوحيد امام المقترح الاميركي هو نتنياهو نفسه الذي طالب بتعديلات واضافات تناسبه.
وبهذه الطريقة، تحوّل الشخص الاكثر كرهاً لدى الديمقراطيين حالياً الى الناخب الابرز في الانتخابات الرئاسية الاميركية، وهو بات العائق الاساسي وربما الوحيد امام حصدهم "الانجاز" الذين سعوا اليه والذي، للوصول اليه، غضوا النظر عن كل الارتكابات والمجازر والاغتيالات وقتل العاملين الدوليين وكل الشنائع التي مورست على مدى اكثر من عشرة اشهر، وصرفوا المليارات من الدولارات لـ"تغذية" اسرائيل، ودخلوا في مفاوضات مع الايرانيين. نجح نتنياهو في وضع الديمقراطيين حيث يريد، فهو إمّا "داهية" في السياسة، او انهم يفتقرون الى الذكاء والقدرة الدبلوماسيّة الكافية لفرض ما يريدون على اسرائيل والمسؤولين فيها، لانّ الجميع يعلم ان "غضب" اميركا على اسرائيل يوازي غضب الام المرضعة على طفلها، ولا يمكنها بالتالي الاستمرار لايام من دون هذا الدعم والمساعدة والرعاية الاميركية.
وفي قراءة سريعة للواقع الحالي، لا تساور الشكوك احداً بأنّ الحرب انهكت الجميع: اسرائيل في المقام الاول (ميدانياً واقتصادياً ودبلوماسياً)، وحماس بطبيعة الحال، والفلسطينيين بشكل عام (يكفي ذكر الخسائر البشرية الفادحة)، وايران (على الصعد كافة)، والولايات المتحدة الاميركية (مالياً ودبلوماسياً وعسكرياً)، وحزب الله، ودول المنطقة من لبنان وسوريا والعراق واليمن، واوروبا (بفعل التداعيات الديموغرافية والتأثيرات الداخلية)... ولكن الوحيد الذي يستمتع بكل هذه المعطيات هو نتنياهو، كونه يعتبر استمرار هذه الحرب لاكثر من عشرة اشهر، هو "انجاز" له تخطّى توقعاته وتوقعات جميع من كان ينتظر سقوطه بعد فشله في تحقيق انتصار سريع وحاسم على الرغم من "الدعم الاعمى" الذي حصل عليه في الاشهر الاولى للحرب. وها هو يحمل اليوم الصندوق الاكبر للاقتراع في الانتخابات الاميركية، لان الوصول الى الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في اميركا من دون اتفاق لوقف اطلاق النار، يعني خسارة الديمقراطيين الكثير من النقاط التي يعوّلون عليها لاظهار قدراتهم امام الناخبين واقناعهم بأن واشنطن عادت من جديد تتسيّد الساحة في المنطقة بعد تراجع مرير كاد ان يطيح بمصالحها وبضبطها لايقاع الامور. اما في حال التوصل بالفعل لاتفاق، فمن شأنه وضع ترامب وحزبه في موقف حرج لن يكون من السهل الخروج منه، وسحب ورقة يلعب عليها المرشح الجمهوري يضمن فيها انهاء الحرب في غزّة ومنع اندلاع حرب عالمية ثالثة واعادة الهدوء والاستقرار الى المنطقة والعالم.
من سخرية القدر ان يكون نتنياهو الذي فشل في جمع الاسرائيليين حوله، والمكروه من غالبيّة الاميركيين والعالم، هو الناخب الابرز في الانتخابات الرئاسيّة الاميركيّة التي ستحصل بعد اكثر من شهرين، فهل سنبقى تحت رحمة تصرفاته وتلاعبه بالاميركيين طوال هذا الوقت، ام سنشهد تحوّلاً ما في طريقة تعاطي الديمقراطيين معه؟.
حتى الآن لا شيء يوحي بأنّ الامور ستتغير قبل تشرين الثاني المقبل.