مرّت أكثر من ثلاثة أسابيع على الاستهداف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال القائد العسكري لـ"حزب الله" فؤاد شكر، وهو ما عدّه الحزب جريمة من خارج إطار قواعد الاشتباك المعمول بها منذ عملية "طوفان الأقصى"، حين فتح جبهة جنوب لبنان إسنادًا للشعب الفلسطيني المُحاصَر في قطاع غزة، وتوعّد بردّ "حتميّ" عليها، يخرج أيضًا عن دائرة العمليات التي ينفّذها الحزب منذ الثامن من تشرين الأول الماضي.
ومع أنّ قادة "حزب الله" ومسؤوليه خرجوا مرارًا على امتداد الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ليؤكّدوا أنّ الردّ "منفصل" عن تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة، وأنّه آتٍ حكمًا، حتى لو انتهت الحرب، وبمعزلٍ عن العواقب التي يمكن أن تترتّب عليه، إلا أنّ هناك من عزا التأخير إلى "الديناميكية" التي شهدتها مفاوضات وقف إطلاق النار حول غزة، وعدم رغبة الحزب بـ"التشويش" عليها، ولو أنّ الانطباع حولها لم يكن إيجابيًا.
إلا أنّ المفارقة التي يسجّلها كثيرون في هذا السياق، تكمن في أنّ التأخّر في الردّ الذي عدّه "حزب الله" على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله "جزءًا من الرد، وجزءًا من العقاب"، لم ينجح في "ثني" إسرائيل عن المضيّ في عملياتها الهجومية ضدّ لبنان، بل عن تصعيدها بوتيرة تكاد تكون غير مسبوقة، سواء على مستوى المناطق التي يتمّ استهدافها، وخصوصًا في البقاع وصيدا، أو على مستوى تفعيل سلاح الاغتيالات.
إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام عن دلالات رفع الجانب الإسرائيلي لوتيرة عملياته في هذه المرحلة، علمًا أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قال إنّ "الهجمات التي نفذناها في عمق لبنان استعداد لأي تطورات قد تحدث"، فهل يمهّد ذلك فعلاً لتطورات جديدة على خط المواجهات في الداخل اللبناني، التي يقول البعض إنّها دخلت مرحلة جديدة، مع انتهاء "بنك الأهداف" في غزة، وأين أصبح ردّ "حزب الله" وسط كلّ ذلك؟.
بالنسبة إلى ردّ "حزب الله" على جريمة اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الأخير لم يحدّد أصلاً موعدًا محدّدًا لهذا الهجوم، ولو أنّه لم يتبنّ شعار "الزمان والمكان المناسبَين"، ولا الموقف الإيراني الأخير بأنّ مدّة الانتظار الإسرائيلي "قد تكون طويلة"، إلا أنّ اعتبارات وعوامل عدّة يأخذها بعين الاعتبار، وقد تكون وراء التأخير "التكتيكي" الذي حصل، ومن بينها ربما عدم الرغبة في الانجرار إلى الحرب.
في هذا السياق، يقول العارفون إن الحزب يدرك أنّ الجانب الإسرائيلي قد يكون في هذه المرحلة راغبًا باستدراج لبنان إلى الحرب الواسعة والشاملة، ولا سيما أنّه استنفد "بنك الأهداف" في غزّة، ولذلك فإنّه يرفض الوقوع في "الفخّ"، وبالتالي فهو يتريّث في الرد، آخذًا بعين الاعتبار تحديد "هدف" لا يؤدي إلى تحقيق الرغبة الإسرائيلية بالذهاب إلى حرب، ولكن من دون أن يبدو في الوقت نفسه، "رفع عتب" ليس إلا، ما قد يعرّضه للانتقادات.
وإذا كان "حزب الله" بهذا المعنى يحاول أن "يوازن" بين الوعد الذي قطعه بالانتقام من ضربة الضاحية بردّ قوي لا يشبه كلّ العمليات التي ينفذها منذ الثامن من تشرين الأول، وبين عدم رغبته في تقديم "الذريعة" لإسرائيل للمضيّ في تصعيد حربها ضدّ لبنان، فإنّ هناك من يعتقد أنّه تعمّد نشر فيديو "عماد 4" قبل الردّ، في مسعى منه لقطع الطريق ليس فقط على أيّ ضربة استباقية قد يذهب إليها الجانب الإسرائيلي، ولكن لردعه أيضًا عن أيّ تصعيد إضافي.
وإلى كلّ هذه الاعتبارات، يرى العارفون أنّ مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ليست بعيدة أيضًا عن عوامل تأخير الحزب ردّه، لأنّ الذي فتح جبهة الجنوب من باب الإسناد لغزة، لن يقبل أن يكون في معرض من يطيل أمد هذه الحرب، عبر التشويش على المفاوضات، حتى لو كان انطباعه بأنّها جاءت لتضييع الوقت، وربما لتعطيل ردّي إيران و"حزب الله"، وهو ما تؤكده الشروط الإسرائيلية التي تفرغ المفاوضات من مضمونها.
عمومًا، ما قد يكون لافتًا على وقع ترقب ردّ "حزب الله" الذي يقول البعض إنّه تأخّر كثيرًا، أنّ الجانب الإسرائيلي في المقابل، يرفع من وتيرة عملياته واستهدافاته، مع ما تنطوي عليه من "استفزاز مباشر" للحزب، وهو ما تجلّى في اليومين الماضيين بشكل خاص، في ضرب العديد من المواقع في البقاع، فضلاً عن صيدا مع الرمزيّة التي تتمتع بها، وهو ما يرى الكثيرون أنّه يكرّس حقيقة أنّ التصعيد الإسرائيلي دخل مرحلة جديدة بصورة أو بأخرى.
وفقًا للعارفين، فإنّه لم يعد خافيًا على أحد، أنّ الجانب الإسرائيلي بتوسيعه دائرة استهدافاته، وشعاع معاركه، يوجّه رسائل واضحة للقاصي والداني بأنّه "مستعدّ للحرب الشاملة"، ولا سيما بعدما أصبح أكثر "مرونة" بعد عشرة أشهر من الاستفراد بغزّة، إن جاز التعبير، وهو ما يمكن قراءته من زاويتين مختلفتين، فهو قد يعني فعلاً أنّ الجانب الإسرائيلي أصبح جاهزًا لتوسيع المعركة، ولو وصلت لحدود الحرب الموسّعة والشاملة.
إلا أنّ هناك من يقرأ الأمر من زاوية مختلفة، على خط المفاوضات المتعثّرة، عبر محاولة الضغط ليس على حركة حماس، ولكن على الوسطاء للضغط عليها من أجل تفادي الذهاب إلى سيناريو الحرب الشاملة التي لا يريدها أحد في المنطقة، وبالتالي فإنّ الإسرائيلي يريد من ذلك "فرض شروطه" على طاولة المفاوضات، وهو ما يُخشى معه أن تزداد وتيرة العمليات أكثر فأكثر، إذا ما أصرّ الفلسطينيون على موقفهم الرافض للمقترح الإسرائيلي المحدَث.
وبين هذا الرأي وذاك، ثمّة من يقول إنّ كلّ السيناريوهات تبدو مفتوحة، وإن كانت الأرجحية تميل إلى أنّ الحرب المفتوحة والشاملة لا تزال مُستبعَدة حتى اليوم، إلا أنّ استمرار العمليات الإسرائيلية على هذا المنوال، قد يقود إليها بشكل أو بآخر، علمًا أنّ الرهان الأساسي يبقى بحسب العارفين على المفاوضات التي يبدو أنّ الوسطاء يتعاطون معها بوصفها مفاوضات "الفرصة الأخيرة"، وهو ما يفسّر تمسّكهم بالمضيّ بها رغم كلّ التعقيدات على خطّها.
مرّة أخرى، إنّه السباق بين الدبلوماسية والعسكر يتكرّس أكثر فأكثر، ويبدو أنّ المفاوضات حول غزة تجسّده بشكل أو بآخر، وقد أضحى واضحًا بالنسبة لكثيرين أنّ ما بعدها لن يكون كما قبلها على كلّ المستويات، سواء نجحت في الوصول إلى اتفاق سينعكس تلقائيًا على كل الجبهات المفتوحة، أو فشلت، وعندها قد تطلق "نفير" المواجهة الواسعة والشاملة، التي ليس سرًا أنّ أحدًا لا يريدها، باستثناء الإسرائيلي المتعطّش ربما للمزيد من الدماء!.