أشار حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، إلى أنّ انعقاد الملتقى السنوي لمكافحة غسل الاموال وتمويل الإرهاب في بيروت "يعكس التزام الاتحاد الراسخ بدعم القطاع المصرفي في لبنان وتعزيز التعاون بين المصارف العربية في مواجهة القضايا المصيرية التي تمس أمننا الاقتصادي، وعلى رأسها مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب"، معبّرًا عن تقديره "لجهود ومثابرة اتحاد المصارف العربية ممثلة بشخص الأمين العام وسام فتوح، على تنظيم هذا الملتقى الهام في بيروت، رغم الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة التي نواجهها حاليا في لبنان والمنطقة، وفي خضم التوترات الأمنية والجيوسياسية غير المسبوقة".
كلام منصوري جاء خلال رعايته افتتاح اتحاد المصارف العربية الملتقى السنوي لمكافحة غسل الاموال وتمويل الإرهاب تحت عنوان "تداعيات الاقتصاد النقدي على النظام المصرفي"، في فندق فينيسيا- بيروت.
وقال: "يشكل موضوع مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب أولوية بالنسبة للبنان الذي قطع شوطاً طويلاً في هذا المجال. والجدير ذكره، أن لبنان تخطى صعوبات جمة، لعل أهمها إدراجه في العام 2000 من قبل مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال على قائمة الدول غير المتعاونة، وذلك بسبب وجود قانون السرية المصرفية الذي يعيق عمل التحقيقات الدولية وعدم وجود، آنذاك، قانون مستقل لمكافحة تبييض الأموال. وقد دأب لبنان منذ ذلك الوقت على اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة، ابتداءً من إقرار قانون لمكافحة تبييض الأموال يستند الى توصيات مجموعة العمل المالي، مروراً بوضع إطار تنظيمي متكامل، وإنشاء هيئة تحقيق خاصة تعنى بمكافحة تبييض الأموال، وصولاً إلى التعاون والتنسيق لتحديد المسؤوليات وتوزيع الأدوار على مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية المعنية، كل بحسب صلاحياته. في العام 2002 تم حذف اسم لبنان من قائمة الدول غير المتعاونة، ليبدأ بحصد التنويهات في المحافل الدولية".
وذكر منصوري أنّ "في العام 2015، أقر مجلس النواب اللبناني عدداً من القوانين، منها قانون الإنضمام الى اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وتعديل قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وقانون التصريح عن نقل الأموال عبر الحدود، وقانون تبادل المعلومات الضريبية، الأمر الذي كان له وقع إيجابي لدى المنظمات الدولية بما يتعلق بسمعة لبنان وقطاعه المالي والمصرفي، لا سيما وضعية امتثاله بالمعايير الدولية. كذلك صدر قانون مكافحة الفساد في القطاع العام في العام 2020، وأنشئت بموجبه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد رسميا. وأقر مجلس النواب في العام 2021 القانون الخاص باستعادة الأموال المتأنية عن جرائم الفساد. ومن جهته، عمد مصرف لبنان الى اصدار التعاميم اللازمة تباعا لمواكبة هذه التشريعات وتحصين المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية. لكن السنوات الماضية كانت حافلة بالصعوبات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والامنية الناتجة عن الأزمة المتعددة الأوجه التي ألمت بلبنان والتأخير في تنفيذ الاصلاحات المنشودة. أضف الى ذلك تدهور الأوضاع الجيوسياسية مؤخرا من جراء الحرب المستمرة على غزة وجنوب لبنان وتداعياتها الملموسة على الوضع الاقتصادي في البلد".
وأوضح أنّ "منذ بداية الأزمة لغاية اليوم، شهد الاقتصاد انكماشاً حادًا حيث انخفض الناتج المحلي من حوالي ٥٥ مليار دولار سنويا الى أدنى من 20 مليار، وفقدت الليرة اللبنانية 98% من قيمتها، فيما بلغ متوسط التضخم 221.3% في العام. 2023 أما الموازنة، فانخفضت من 17 مليار دولار الى 3.2 مليار. لقد خلقت هذه الأزمات حالة من عدم الثقة لدى المودعين، مما حرف النشاط الاقتصادي إلى خارج النظام المصرفي وأصبح نقديا بمجمله. cash economy ويعكس الاقتصاد النقدي المدوار تحولاً سريعاً نحو المعاملات النقدية بالعملات الصعبة، وزيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، مما يشكل خطراً كبيراً على الدولة ويهدد بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان في مجال مكافحة تبييض الأموال في القطاع المصرفي. لذلك، أصدر مصرف لبنان التعميم 165 الذي أتاح فتح حسابات جديدة بالأموال النقدية بالدولار والليرة اللبنانية لاستعمالها لتسوية التحاويل المصرفية الإلكتروية الخاصة بالأموال النقدية (fresh) وتسوية مقاصة الشيكات التي يتم تناولها أيضاً بالأموال النقدية، مما يحد من محاولات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ويحجم الاقتصاد النقدي".
وتابع "كما يعمل مصرف لبنان ومنذ فترة على تطبيق إجراءات لتعزيز استخدام وسائل الدفع الإلكترونية بهدف تقليل الاعتماد على النقد في السوق اللبناني. تتماشى هذه المبادرات مع المعايير الدولية، لا سيما تلك التي تهدف إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب".
وذكر أنّ "لبنان، كما البلدان المجاورة، يخضع لمزيد من التدقيق من المجتمع الدولي، ولا سيما الأميركي والأوروبي، ولهذه الغاية، يقوم المصرف المركزي بمتابعة التطورات في المنطقة بغية اصدار التعاميم اللازمة ضمن صلاحياته، ويقترح على الحكومة إجراء تعديلات على القوانين السارية وقوانين جديدة، ليبقى لبنان مندمجا في النظام المالي العالمي".
وأفاد منصوري بأنّ "مصرف لبنان أدخل مؤخرا تعديلات هامة على نظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتركز هذه التعديلات بشكل رئيسي على تعزيز إجراءات البنوك لمكافحة الفساد والرشوة من خلال الزامها بانشاء مصلحتين ضمن وحدة التحقق"، الأولى تشرف على المركز الرئيسي وفروع المصرف للتأكد من التزامها بإجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والثانية تعنى ب مكافحة جرائم الفساد والرشوة من خلال تنفيذ إجراءات العناية الواجبة المعززة للعملاء المعرضين لمخاطر مرتفعة في الفساد والرشوة، تقديم تدريبات للموظفين لتحديد الأنشطة المشبوهة المتعلقة بالفساد والرشوة والإبلاغ عنها، تطوير سياسات وإجراءات شاملة لمنع واكتشاف الفساد والرشوة، إجراء تقييمات دورية للمخاطر لتحديد وتخفيف مخاطر الفساد، وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة عن أي حالات اشتباه في الفساد أو الرشوة".
وأضاف "كما طلب مصرف لبنان مؤخرا من المصارف والمؤسسات المالية وشركات الإيجار التمويلي والمؤسسات التي تصدر وتروج بطاقات الإيفاء والانتمان وتلك التي تتعاطى العمليات المالية والمصرفية بالوسائل الإلكترونية ومؤسسات الصرافة وكونتوارات التسليف تزويده باسماء المساهمين وأصحاب الحصص وأعضاء ورؤساء مجالس الإدارة وكل من يشغل منصباً في الإدارة العليا التنفيذية فيها، من أجل التحقق بشكل دوري ما إذا كان أي من الأسماء مدرجاً على أي من لوائح العقوبات الأممية والدولية والوطنية. إضافة الى هذه الاجراءات يقوم مصرف لبنان بالتعاون مع هيئة التحقيق الخاصة بإجراء سلسلة من اللقاءات مع القطاعات التي تشكل خط الدفاع الأمامي في مواجهة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وفي هذا المجال، أطلقنا في شباط وآذار من هذا العام دورتين للامتثال القانوني والتنظيمي، الأولى لمؤسسات الصرافة والثانية النقابة الصاغة والجوهرجية في لبنان".
وشدد على أنّ "قرار مجموعة العمل المالي FATF سوف يُقرّ في الخريف المقبل ونحن ما زلنا نعمل جاهدين لمنع إدراج لبنان على القائمة الرمادية".
وأضاف "يظهر تقرير التقييم المنجز من قبل المجموعة الإقليمية، وجوب مبادرة السلطات المحلية بإجراء تحسينات جوهرية في حزمة من التوصيات الأساسية حصل فيها لبنان على درجة ملتزم "جزئياً"، ما يتطلب حكماً إجراء بعض تعديلات في القوانين والتدابير النافذة، بما يتناسب مع مقتضيات الامتثال لكامل المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، علماً بأن لبنان حاز درجات مرضية، ولو غير مكتملة، في التقييم العام للالتزام الفني، حيث حصل على درجة "ملتزم" أو "ملتزم إلى حد كبير" في 34 توصية من أصل 40 تعتمدها الهيئات الرقابية الدولية".
وقال: "بما يخص قياس الفاعلية، حصل لبنان على علامة "متدنية"، كشفت خصوصاً عن عدم كفاية القوانين والإجراءات في ملاحقة ومصادرة المتحصلات الإجرامية والأصول ذات الصلة والادعاءات والأحكام القضائية بجرائم تبييض الأموال، والتي يجب أن تكون أكثر اتساقاً مع المخاطر، لا سيما ضرورة وجود عقوبات متناسبة ورادعة بشأنها، في حين نجح نسبياً بحيازة درجات "متوسطة" يمكن تطويرها في 9 نتائج مباشرة من اصل 11 توصية واجبة الالتزام التام. ويؤكد التقرير إن المصرف المركزي والقطاع المصرفي يلتزمان بمتطلبات مجموعة العمل المالي (FATF)".
وأوضح أنّه "بناء على ما تقدم، ان لبنان بحاجة الى وضع خطة عمل تشاركية مع كافة الجهات المحلية المعنية، بدعم من السلطة التشريعية ومن صانعي السياسات لمعالجة الثغرات وتعزيز فعالية نظام مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب اللبناني. بالفعل هناك حاجة لمقاربة حكومية شاملة لتنفيذ الإجراءات التصحيحية المطلوبة من الجهات الداخلية المعنية".
وشدد على أنّ "مصرف لبنان، ومن خلال الصلاحيات المعطاة له بموجب قانون النقد والتسليف، يعمل على إرساء حالة من الاستقرار بانتظار الحلول الكبرى التي تتطلب قرارات جريئة وواضحة من السلطات السياسية التي يعود اليها فرض حلول تتناسب مع عمق الأزمة التي تعيشها البلاد".
وتابع منصوري "نتيجة السياسات الجديدة التي اعتمدها مصرف لبنان مؤخرا، انخفضت الكتلة النقدية بأكثر من 25% منذ بداية العام 2023، لتصل إلى 59 ترليون ليرة حاليًا حتى منتصف آب 2024. أما الاحتياطات الأجنبية للمصرف المركزي، فجلت فائضا فاق المليار و800 مليون دولار منذ آب 2023، لتصبح 10.388 مليار دولار، مقابل كتلة نقدية دون الـ700 مليون دولار".
وذكر أنّ "قرارت مصرف لبنان حول وقف تمويل الدولة وعدم التدخل في سوق القطع وايقاف العمل بمنصة صيرفة، كان من نتائجها توقف النزف وتحمل الجباية كما استقرار في مالية الدولة".
وقال منصوري "لقد ساهمنا في تصحيح وتنظيم مالية الدولة بالكامل حيث أصبح بإمكان الدولة معرفة كيفية الصرف وقدرتها على الصرف من حساباتها الموجودة لدى مصرف لبنان، وقد لمسنا للمرة الأولى قدرة الدولة على ايجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها بشكل طارئ كما حصل مؤخرا، من دون اللجوء الى الاستدانة من مصرف لبنان كما كانت العادة في السابق".
ولفت إلى "أننا نعود ونكرر أهمية الدعائم الأربع التي يجب الارتكاز عليها لاخراج لبنان من الأزمات العميقة التي تعصف به أولاً، المحاسبة عن طريق القضاء حصراً، ثانيا وضع آلية واضحة لاعادة أموال المودعين، ثالثا، بناء الاقتصاد من خلال إعادة إطلاق عمل القطاع المصرفي، ورابعا، إعادة هيكلة الدولة وإجراء الإصلاحات التي طال انتظارها".
وأكّد منصوري "التزام مصرف لبنان بالتعاون الوثيق مع المصارف العربية ودعمه لها ولفروعها الموجودة في لبنان حيث نعتبر ان مكان لبنان الطبيعي هو في اندماجه الكامل مع محيطه العربي، ونحن نأمل أن تكون نتائج هذا الملتقى محطة مهمة لتعزيز اليات التعاون وتطوير السياسات المشتركة التي ستسهم في حماية نظامنا المالي من المخاطر المتزايدة في هذه المرحلة الحساسة".