منذ اليوم الأول لفتح جبهة جنوب لبنان من قبل "حزب الله" في الثامن من تشرين الأول الماضي، بعد يوم واحد على عملية "طوفان الأقصى" وما ترتّب عليها من حرب إسرائيلية على قطاع غزة لم تنتهِ فصولاً بعد، لا حديث يتقدّم في لبنان وخارجه على الحرب التي لم تتعدّد مسمّياتها فحسب، بين شاملة وإقليمية وواسعة، ولكن تعدّدت أيضًا المواعيد التي ضُرِبت لها، ربطًا بارتفاع أسهمها أو انخفاضها وفقًا للظروف المحيطة بها في المنطقة ككلّ.
ومع أنّ أيًا من هذه المواعيد التي ضُرِبت للحرب الواسعة لم يصدق، فإنّ هذه "النغمة" عادت لتتصاعد بشكل لافِت في الأيام الأخيرة، مع "تقاطع" العديد من الجهات الداخلية والخارجية على "الجزم" بأنّ الحرب باتت أقرب من أيّ وقتٍ مضى، حتى إنّ بعض هؤلاء ذهب بعيدًا في تحديد "تاريخ" هذه الحرب، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر النائب مروان حمادة، الذي قال إنّ الحرب واقعة خلال أيام، "إن لم يكن ساعات".
وفي حين فجّر تصريح النائب حمادة، "الخطير" على حدّ وصفه، جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية، خصوصًا أنّه ربطه في بادئ الأمر بمعطيات قال إنّه تلقّاها من جهات دبلوماسية غربية، على صلة مباشرة بالمفاوضات القائمة حول وقف إطلاق النار، قبل أن يتراجع ليحصر تصريحه في خانة "التحليل"، فإنّ الثابت أنّ كلام حمادة ليس معزولاً، فقد كرّره آخروه، بينهم محلّلون وصحافيون مرموقون، ولو بصيغٍ مختلفة.
وإذا كان هؤلاء يستندون في استنتاجاتهم إلى أنّ الصراع يبدو في محطة "فاصلة" في هذه المرحلة، فما بعد المفاوضات التي أضحت على وشك الانهيار قد لا يكون كما قبلها، فإنّ المشكلة في مقارباتهم "المتشائمة"، حتى لو بدت "واقعية" لهم، أنها تبتعد عن مجرّد "التحليل"، لتقترب من سياقي "التنجيم والتهويل"، فما الهدف من ضرب مواعيد الحرب، في ظلّ الظروف الحالية الدقيقة، وهل أصبحت الحرب فعلاً محسومة لهذه الدرجة؟!.
بافتراض حسن النيّة، يقول العارفون إنّ التصريحات المتصاعدة عن "حرب وشيكة" تستند إلى تحليل "متشائم" للحظة الحالية من الصراع، إذ ثمّة الكثير من المؤشرات التي توحي بأنّ "الانفجار" بات قريبًا، خصوصًا أنّ المفاوضات التي راهن الكثيرون عليها، خرجت من دائرة التعثّر إلى السقوط، في ضوء ما يُحكى عن شروط أفرغتها من مضمونها، بل إنّ هناك من يقول إن عدم نعيها رسميًا يهدف إلى محاولة الوسطاء احتواء الموقف، وتفادي الحرب.
يوضح العارفون أنّ الانطباع القائم لدى كثير من المتابعين، هو أنّ ما بعد هذه المفاوضات لن يكون كما قبلها على خطّ جبهة لبنان تحديدًا، لأنّ الحرب على غزة "انتهت" بالمعنى التكتيكي، من دون أن تنتهي رسميًا، فمع استنفاد بنك الأهداف الإسرائيلي في القطاع، الذي دُمّر عن بكرة أبيه، ولم يعد صالحًا للحياة، باتت المهام "الحربية" مقتصرة على ضربات موضعية ومحدّدة، بعيدًا عن الشكل الذي قامت عليه الحرب منذ السابع من تشرين الأول.
بنتيجة ذلك، فإنّ التركيز إسرائيليًا بدأ ينتقل تدريجيًا من "جبهة غزة"، إلى ما يُعرَف إسرائيليًا بـ"جبهة الشمال"، أي الجبهة اللبنانية، حيث تصاعدت وتيرة العمليات في الأيام الأخيرة بصورة لافتة، وهو ما يُخشى أن يتصاعد أكثر في حال إعلان فشل المفاوضات رسميًا، في ظلّ مخاوف ممّا يشبه "التسلّم والتسليم" بين الجبهتين، وسط حديث إسرائيلي مُعلَن عن انتقال "الثقل الحربي" لجبهة لبنان، حيث وصل تأهّب القوات في الأسابيع الأخيرة إلى أعلى مستوياته.
وإذا كان صحيحًا أنّ هذا التأهّب يرجع بشكل أساسيّ إلى حالة "الاستنفار" التي أعلنتها تل أبيب بعد ضربتي طهران والضاحية الجنوبية لبيروت، وما نتج عنه من انتظار طال كثيرًا للردّ سواء من جانب "حزب الله" أو إيران أو كليهما، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ السفارات الغربية لعبت دورًا أساسيًا في تعزيز المخاوف، عبر تحذيراتها وتوصياتها، وما يُحكى خلف الكواليس عن إعدادها لخطط الإجلاء، التي ستنفذها بمجرّد تحديد "ساعة الصفر".
لكلّ هذه الأسباب، يرى البعض أنّ التحذيرات من الحرب الوشيكة قد تجد ما يبرّرها على مستوى التحليل السياسي والأمني إن صحّ التعبير، إلا أنّ المشكلة تبدو "أخلاقية" بالنسبة لكثيرين، حين يعمد البعض إلى "الجزم" بأنّ الحرب واقعة، بل يضرب لها المواعيد من دون أيّ دليل، مع ما يسبّبه ذلك من ضغط نفسي ومعنوي على الناس، متجاهلاً وجود عوامل تستبعد في المقابل الذهاب عمليًا إلى الحرب، التي لا يريدها أحد، ولو جاهر الجميع بالعكس.
فإذا كان صحيحًا أنّ ثمّة انطباعًا لدى كثيرين بأنّ سقوط المفاوضات قد يقرّب الحرب، وإذا كان صحيحًا أنّ إسرائيل برفعها وتيرة عملياتها واستفزازاتها لـ"حزب الله" وإيران تستدرجهما إلى مثل هذه الحرب، فإنّ هناك من يؤكد أنّ إسرائيل لم تحصل على "الضوء الأخضر" للمضيّ في هذا السيناريو، بل إنّها لا تزال تواجه "فيتو" واشنطن، ولذلك فهي تسعى إلى دفع "حزب الله" وإيران لإطلاق "الطلقة الأولى"، إن صحّ التعبير.
في المقابل، يقول العارفون إنّ الثابت أنّ "حزب الله" وإيران ليسا جاهزَيْن لتحمّل مثل هذه المسؤولية، وخير دليلٍ على ذلك "تريّثهما" المُبالَغ به في الردّ على جريمتي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والقائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، وصولاً لحدّ حديث مسؤول إيراني قبل أيام عن أنّ فترة انتظار الردّ قد تكون طويلة، مع ما يسبّبه مثل هذا الأمر من "حَرَج" لهما أمام جمهورهما وبيئتهما الحاضنة.
وفي وقت تتفاوت التقديرات بشأن تأثير الانتخابات الأميركية على مسار الحرب، بين من يقول إنّ الرئيس جو بايدن مصرّ على إنهائها قبل انقضاء ولايته، في حين أنّ المرشح دونالد ترامب يريد إطالة أمدها ليخسر الديمقراطيون، ثمّة قراءة مختلفة تضع كلّ ما يجري من تهويل في سياق محاولة الضغط الإسرائيلي، من أجل تحقيق المكاسب على طاولة المفاوضات، وفق معادلة إما القبول بالشروط الجديدة، أو الذهاب إلى الحرب الواسعة.
هكذا إذاً، تتعدّد القراءات للتصريحات المتزايدة عن الحرب هذه الأيام، فهي قد تندرج في خانة التحليل، وبالتالي التنبيه والتحذير، بافتراض حسن النية، إلا أنّ النقطة الفاصلة بين التحليل والتنجيم، وبالتالي التهويل، وهنا بيت القصيد، خصوصًا أنّ المقاربة المطلوبة إذا صحّ "استشعار الحرب" أبعد ما تكون عن التهويل، بل تنطلق من تضامن وطني لا يزال مفقودًا، ما قد يشكّل "نقطة ضعف" على مستوى الحصانة اللازمة للتصدي للحرب، إن وقعت!.