نودِّع عيد رقاد والدة الإله سيِّدتنا مريم العذراء بعد ثمانية أيَّام من العيد، أي في اليوم الثالث والعشرين من شهر آب. نودِّعه ليتورجيًّا وليس إيمانيًّا وعيشًا. فترة الثمانية أيَّام لها معناها العميق، فاليوم الثامن هو، في الواقع، اليوم الأوَّل من الأسبوع الجديد، هو الملكوت المُعاش منذ الآن والذي افتتحه الربُّ يسوع المسيح بقيامته المجيدة من بين الأموات، وأقامنا معه إلى الحياة الأبديَّة.
اليوم الثامن في اللاهوت هو يوم أخرويٌّ – إسكتالوجيٌّ من الكلمة اليونانيَّة -Eschatología- Eschatologie والمقصود بها كلامًا عن آخر الأيَّام، أي ماذا بعد حياتنا الأرضيَّة بالجسد "au-delà - beyond".
الربّ تجسَّد لكي نعي أنَّنا أبناء الله بالنعمة وحياتنا لا تنتهي هنا بل هي رحلة إلى الملكوت السماويِّ إذا نحن شئنا. رحلة في سفينة الخلاص، في سفينة الإيمان، في سفينة الاتِّحاد مع خالقنا، لكي تكون آخرتنا بداية لا نهاية، بداية ما بدأناه هنا مع يسوع.
المسيحيُّ يعيش على الأرض ولكن لا يتعلَّق بالأرض لأنَّه ليس فقط أرضيّا بل هو روحيٌّ أيضا. هو مخلوق على صورة خالقه، والخالق أبديٌّ لا يموت. أمَّا الموت الحقيقيُّ فهو الابتعاد عمّا خلقنا الربُّ عليه، أناسًا يسعون إلى اقتبال الإلهيَّات.
هذا ما فعلته والدة الإله، وهذا ما عاشته، وهذا كان عشقها الوحيد. فهل هذا يعني أن أبقى بتولًا مدى حياتي؟.
نعم، ولكن بتولًا في الروح والفكر والمشاعر والعقل والذهن وكلِّ شيء يتحرَّك فينا، لأنَّ تحرُّكنا له وجهة واحدة، هي الملكوت. وكلمة "بتول" تعني الانقطاع، والإنسان المؤمن المسيحيُّ الحقُّ هو إنسان مجاهد يسعى، في كلِّ لحظة من لحظات حياته، إلى أن ينقطع عن الخطيئة، وهذا ما دعانا بولس الرسول إليه: "فإذ لنا هذه المواعيد أيُّها الأحبَّاء لنُطهِّرْ ذواتنا من كلِّ دنس الجسد والروح، مُكمِّلين القداسة في خوف الله" (2 كورنثوس 1:7).
هذه دعوة لكلِّ واحد منَّا، أكان متزوِّجا أم غير متزوِّج، إكليريكيّا كان أم غير إكليريكيٍّ. نحن مدعوُّون إلى أن نتقدَّس أينما كنَّا، والموضوع ليس فقط أخلاقيّا بل هو أبعد من الأخلاق بكثير. هو عشقٌ للربِّ وبذلٌ للذات، وترجمةُ العشق محبَّةً وأعمالًا.
هذا تمامًا ما فعلته والدة الإله في حياتها، وأكثر من ذلك لم تطلب يومًا شيئًا لنفسها، كان مبتغاها كلُّه أن تظلّ مصغيةً إلى كلمة الله وعاملةً بها. فلا أعجب أن نقول عنها: "مَجدُكِ يفوقُ حدَّ الكمالْ، أنتِ للأنوارِ شمس ما لها منْ مِثالْ. مُنقذةَ آدمْ، وسيدةَ العالمْ، إليكِ تسابيحَ التكريمِ والإجلالْ" (من خدمة صلاة الباراكليسي).
لم تنقذ آدم فحسب بل جميعنا، لأنْ منها ولد المخلّص، وهي تدعونا أن نفعل كلّ ما يطلبه منّا. بهذا المعنى خلّصت آدم لأنّها أصبحت حواء الجديدة ومثالًا لنا. فهي صرف من جنسنا، ولا عذر لنا لكي نتراخى.
الكتابات عنها والمدائح والتراتيل والأناشيد لا تُعَدُّ ولا تحصى. كذلك الفنُّ الكنسيُّ، فنشاهدها في أيقونة رقاد والدة الإله مستلقيةً ورأسُها عالٍ كأنَّها نائِمة، والربُّ يتقبَّلُ بين يَديهِ رُوحَها الطاهرةَ مَلفوفة بأقمطةٍ بيضاءَ بهيئةِ طِفلةٍ صغيرةٍ تعبيرًا عن طهارَتِها.
يقف القدِّيس بطرس عند رأس العذراء، وبولس الرسول من جِهةِ القدمين. إنَّهما كمقدِّمة سفينة سماويَّة وخَاتِمَتها، وصحنُ السفينة جسد العذراء، وهو، سِرِّيًّا، الكنيسة المبحرة بنا نحو ميناء الخلاص، وأمَّا الصاري فهو المسيح الذي عاد ونقلها إليه بعد دفنها بثلاثة أيَّام.
لهذا، فإنَّ أيقونة رُقاد والدة الإله قياميَّةٌ بامتياز. فهي تُظهر اللحظة القصوى للضعْف البشريِّ، أي الموت، ولكن في الوقت عينه تُظهر تعزية وفرحًا ومجدًا. الربُّ يسوع المسيح ووالدته يشكِّلان خطَّين عاموديّا وأفقيّا. الربُّ لا يَقْبَلُ إلَّا أن يلتقي بالإنسان، والإنسان يشتهي أن يلتقي بخالقه. لقاؤُهما حياةٌ أبديَّة.
نعود إلى مقدِّمة المقالة، نحن في هذه الحياة في رحلة ملكوتيَّة، إن أحسَنَّا الإبحار كوالدة الإله بلغنا الميناء الأمين وكان لنا النصيب الصالح.
إلى الربِّ نطلب.