مُذ أعلَنَ موخوسُ الصَيدونِيُّ أنَّ الذَرَّةَ تَتَجَزَّأ، مُناقِضاً السائِدَ إغريقِيَّاً أنَّها الجِزءُ الذي لا يَتَجَزَّأ، والإنفِصالُ تَمَّ بَينَ لبنانَ والغَربِ. غَرِقَ الغَربُ في تَناقُضاتِ الإجابَةِ عَن سؤالِ بروتاغوراسَ في القَرنِ الخامِسِ قَبلَ الميلادِ: ما الحَقيقَةُ؟ وَكانَ هَدَفُهُ التَشكيكَ بِها فَتَحجيمَها فَنَقضَها...لإمتِلاكِها. وَتَعالى لبنانُ في توكيدِ أنَّ التَشكيكَ باليَقينِ تَشكيكٌ بالحَتمِيَّةِ، إستِناداً الى مَبداَ السَبَبِيَّةِ تَعني أنَّ ظاهِرَةَ الآنِ سَتَكونُ سَبَباً لِظاهِرَةِ الغَدِ.
لبنانُ المؤمِنُ بِطاقَةِ العَقلِ الفِكرِيَّةِ في البَحثِ عَنِ الحَقيقَةِ، ألمُنطَلَقُها الأُلوهَةُ لِبُلوغِ الإنسانِ، كَرَّسَ إستِقلالِيَّةَ الفِكرِ، مِن قُدموسَ الباني الى زَينونَ مُؤَسِّسِ الرِواقِيَّةِ مَذهَبَ إعتِناقِ البُطولَةِ: لا العُنفِيَّةِ بَلِ النابِعَةِ مِن عُمقِ الإنسانِ حَيثُ لا إختِلاطَ بَينَ الحَقيقَةِ الطالِعَةِ مِنَ الفِكرِ البَشَرِيِّ وَتِلكَ النازِلَةِ مَنَ الوَحيِ الإلَهيِّ. فالأولى تَتَوَسَّلُ العَقلَ وَتُلاقيهِ فَتُرَقِّيهِ، والثانِيَةُ تَتَخَطَّى العَقلَ فَتُنيرُهُ وَتُنَمِّيهِ.
لبنانُ المؤتَمَنُ على مِلءِ النِعمَةِ وإمتِلائِها بالحَقِّ، كَرَّسَ رَسولِيَّةَ خِدمَةِ الحَقيقَةِ المُتَكامِلَةِ تِلكَ، بِجُهدٍ ثالوثِيٍّ: البَحثُ عَنها، والسَعيُ لِبُلوغِها، والثَباتُ فيها.
أهوَ فِعلُ جَذبٍ، هَذا اللبنانُ في ما أتاهُ مِن تُخومِ صَيدونَ؟ بَل فِعلُ إعتِناقٍ مِحوَرِيٍّ تألَّقَ وِفقَ مُقَتَضَياتِهِ، بَينَ جَذرِيَّتَينِ: الإلتِزامُ والتَضحِيَةُ، لِيَهِبَ الحَياةَ الجَديرَةَ بِتِلكَ الحَقيقَةِ. هي أزمَةُ الحَقيقَةِ التي دَفَعَ لبنانُ أثمانَها مِن وجودِهِ، وَما تَمَكَّنَت مِن تَدنيسِ جَوهَرِهِ. قُلّ: بالحَقيقَةِ الإختِبارِيَّةِ يُلَخَّصُ جَوهَرُهُ، مِن ماضيهِ الى ما بَعدَ بَعدَ أواتيهِ. أهوَ كَفالَةُ الوجودِ؟ ألا أُنظُر ذاكَ الغَربَ، مُذ أقلَقَهُ سؤالُ بروتاغوراسَ وَهوَ يُصارِعُ ذاتَهُ وَيَتَصارَعُ بَينَ إسكَندَرٍ أعظَمٍ إغريقِيٍّ أو مُتأغرِقٍ غِوايَتُهُ الحَربُ لِلحَربِ، سَيطَرَةً فَدَماراً فَقِتالاً، وإمبَراطورٍ رومانِيٍّ أو مُتَرَومِنٍ غِوايَتُهُ تَوَعُّدُ المَوتِ لِلمَوتِ، قِتالاً فَدَماراً فَسَيطَرَةً...
الغَربُ الناكِرُ إختارَ، مِن زَمَنِ الإغريقِ الى الأزمِنَةِ الرومانِيَّةِ، طَرائِقَ حاسِمَةً لِدَحضِ إمتِلاءِ الحَياةِ المُتَدَفِّقِ مِن تَوَهُّجِ الحَقيقَةِ. أتُراهُ خَشِيَ تَسامِيَ المُطلَقِ؟ بَل إستَفرَدَ بِهِ لِذَواتِ مُتألِّهيهِ. أولَئِكَ الذين فَرَضوا أن لا أُلوهِيَّةَ إلَّا في حَتمِيَّاتِهِمِ، وَلا سَبَبِيَّةَ إلَّا في مُجاراتِهِمِ. فيهِم لا كَفالَةَ حُرِيَّةٍ بَل تَغَلغُلَ الإذعانِ بِأوجُهٍ مُختَلِفَةٍ، مُستَوحِشَةٍ. وَحدَهُ الإقرارُ بِهِمِ يُرويهُمُ غايَةً لِأنفُسِهِمِ... كُلُّ الباقينَ إحرازُهُمُ.
الغَربُ النَكِرَةُ عَمَّمَ، لِحَواضِرَ عَصرِيَّتِهِ تَدنيسَ كُلِّ بَصيرَةٍ وَما إكتَفى بِديكارتَ الداعِيَ لِلتَشكِيكِ حَتَّى بِوجودِ ذاتِهِ، وَلا بِنيتشه مُلغِيَ كُلَّ وجودٍ لِجَوهَرٍ.
صَوغُ التَجانُسِ
لَم يَبنِ لبنانُ ذاتَهُ لِذاتِهِ، وَلا تَفَرَّدَ بِذاتِهِ واحِداً أحَداً صَمَداً. حاضِراتُهُ وَخَلائِقاتُها عَبرَ المَدى، رَحابَةُ تَجانُسٍ في عَلائِقَ مُتَبادِلَةٍ لِصَوغِ فِكرٍ الحَقيقَةُ فيهِ واحِدَةٌ، إذ هي تَلاقٍ بَينَ شَوقِ التأنسُنِ وَتَوقِ الأُلوهَةِ، وَحَتَّى تَوافُقٍ بَينَ المؤمِنِ وَغَيرِ المؤمِنِ... حَيثُ الفِكرُ طَريقٌ لا نِهايَةَ لَهُ، بِهِ تَتَخَطَّى النِعمَةُ التَصديقَ لِتَبلُغَ سِرَّ المَعرِفَةِ وَكَشفَ العَقلِ لِنَقيضِ التَناقُضاتِ.
في هذا الصَوغِ، لبنانُ أساسٌ، إدراكٌ، حَضارَةٌ!
وَفي هذا التَجانُسِ، لبنانُ مُكابَدَةُ الخَيرِ لِتَنامي مُستَحضَراتِ الشَرِّ.
غِناهُ أنَّهُ النَقيضُ وَما ساوَمَ على وجودِهِ، وَلا تَهَرَّبَ مِن جِراحاتِ جَوهَرِهِ. نَهبُ الغَربِ والمُستَغرِبينَ لَهُ بالمِرصادِ؟ هو ما يَلقى إلَّا الرَيبَةِ؟ صَحيحٌ! لَكِنَّهُ لا يَتَوَعَدُّ أحَداً بالدَمارِ الهادِرِ، بالمَوتِ الأبَديِّ، بالنِهاياتِ الجارِفَةِ.
هو لا أحَدَ يُنَصِّبُ لِذاتِهِ مَظالاً بَديلاً عَن ضياءِ ذَرَّاتِهِ الجامِعَةِ.
الغَربُ والمُستَغرِبونَ، بِمُتألِّهيهِمِ، سُقوطٌ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ. وَهو يَقِفُ شاهِداً لِعُبورِ جُثَثِهِمِ...