تحت عنوان عملية "يوم الأربعين"، جاء ردّ "حزب الله" المُنتظَر على الهجوم الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، من دون أن يضع حدًّا للجدل الذي أثاره تأخّره لأسابيع بدت "طويلة" نسبيًا، ولم تتوقف فيها التكهّنات حول السقف المنشود منه، فضلاً عن التبعات والتداعيات المحتملة، في ظلّ موجات من الاستنفار والتأهّب، ترافقت مع تهويل لم ينتهِ فصولاً بحربٍ شاملة وواسعة، وربما ذات أبعاد إقليميّة.

صحيح أنّ عنصر "المفاجأة" حضر في ردّ "حزب الله"، الذي تعمّد تأخير الهجوم لما بعد انتهاء مرحلة "الذروة" على مستوى تأهّب الجيش الإسرائيليّ، حتى جاء في وقتٍ كاد الأخير يعتقد أنّ الردّ مؤجَّل ربما لما بعد انتهاء الحرب على غزة، أو بالحدّ الأدنى نضوج المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ إسرائيل حاولت "التشويش" عليه، بضربة استباقية صُنِّفت بالأوسع على الإطلاق ضدّ لبنان، منذ حرب تموز 2006.

ولعلّ هذا "التشويش" تجلّى أيضًا في التعاطي الإسرائيلي مع الردّ منذ ما قبل "البيان رقم واحد" الذي أصدرته العلاقات الإعلامية في "حزب الله" بشأنه، إذ حرصت تل أبيب على تأكيد "فشله" في تحقيق أيّ هدف، بل على ادّعاء "الانتصار" عبر إحباط "المؤامرة"، إن صحّ التعبير، من خلال إجهاض ما قيل إنّه كان مخطّط الحزب، القائم على ضرب آلاف الصواريخ باتجاه تل أبيب، ليقتصر الأمر في النهاية على بضع مئات، تمّ اعتراضها بالمجمل.

في المقابل، جاءت "سرديّة" الحزب مغايرة بالمُطلَق، بحسب ما جاء في البيانات المتلاحقة التي أصدرها، أو في الكلمة المتلفزة لأمينه العام السيد حسن نصر الله، والتي تقاطعت بمجملها على تأكيد "إنجاز المهمّة بنجاح"، فكيف يُقرَأ كلّ ذلك في سياق المواجهة المفتوحة بين الجانبين منذ فتح الحزب جبهة الإسناد لقطاع غزة في جنوب لبنان، وأيّ تداعيات للتصعيد المستجدّ على هذه الجبهة، وقبل ذلك على الحرب الشاملة التي لا يزال طيفها يلوح في الأفق؟.

في القراءة الموضوعية لردّ "حزب الله" على هجوم الضاحية واغتيال شكر، يقول العارفون إنّ الحكم عليه بالنجاح أو الفشل بالمُطلَق قد يكون سابقًا لأوانه، إذ إنّ معطياته لم تتكشّف بالكامل، خصوصًا في ضوء التكتّم الإسرائيلي المعتاد في هذه الأمور، إلا أنّ الأكيد بحسب هؤلاء، أنّ الحزب أراد منه "تثبيت" معادلات وقواعد الاشتباك بصورة أو بأخرى، خصوصًا في ظلّ الانطباع بأنّ المعركة لا تزال طويلة، وقد تكون مفتوحة على كلّ الاحتمالات.

من هنا، وعلى الرغم من الأسقف المرتفعة التي سبقت الرد، سواء من جانب "حزب الله" أو من المحسوبين عليه، ممّن تبنّوا بعض المعادلات من قبيل "اغتيال مقابل اغتيال"، و"حيفا مقابل الضاحية" وغيرها، فإنّ هناك من يعتقد أنّ الهدف من الردّ لم يكن عمليًا إلحاق "الأذى" بالمعنى الواسع في صفوف الإسرائيليين، بقدر ما كان "ترسيم" حدود الاشتباك عبر "تحديث" المعادلات القائمة، وربما استكمال رسائل "الردع" التي يتبادلها الجانبان أساسًا منذ فترة غير قصيرة.

وقد يكون خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" لعب دورًا أساسيًا في هذا الإطار، بدءًا من الحديث عن العوامل التي دفعت الحزب إلى تأخير الردّ، مرورًا بالضوابط التي التزم بها أخلاقيًا، بما في ذلك أن يكون الهدف منه عسكريًا لا مدنيًا، وله صلة بعملية اغتيال شكر، وأن يكون قريبًا جدًا من تل أبيب، أي في العمق، وكلها عوامل تحمل رمزية خاصة، اختزلها الهدف المُعلَن، وهو قاعدة المخابرات العسكرية الإسرائيلية في غليلوت التي تبعد عن حدود لبنان 110 كيلومتر.

وفي السياق نفسه، ثمّة من يضع الردّ بمجمله في إطار "الحرب النفسية" المستمرّة بين "حزب الله" وإسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول، بل يضعه في خانة الفيديوهات التي ينشرها الحزب في الآونة الأخيرة، وكأنّ الحزب أراد أن يستعرض قوته في هذا الهجوم الذي قد لا يكون مسبوقًا من حيث كثافته، من دون أن يستخدمها بالكامل، علمًا أن تلويح الحزب باستخدام الصواريخ الاستراتيجية والدقيقة في المستقبل، بما في ذلك الصواريخ البالستية، يندرج أيضًا في هذه الخانة.

لكن، بعيدًا عن رسائل "الردع" التي يتبادلها الجانبان بين الفينة والأخرى، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول النتائج العملية التي حقّقها الهجوم، في ضوء السرديّتين "المتناقضتين" بشأنه، وفي ضوء انطباع بأنه كان "شكليًا" ليس إلا، ولكن أيضًا حول التبعات والتداعيات المحتملة له، والتي قد تكون متناقضة أيضًا، بين طيّه لصفحة الحرب بمعناها الشامل، ولكن ربما فتحها بمعنى آخر، طالما أنّ الحزب ثبّت مرة أخرى أنّه غير معنيّ بتصعيد المواجهة تحت أيّ ظرف.

هنا، يقول العارفون إنّ الثابت بين سرديّتي "حزب الله" وإسرائيل بشأن الهجوم، أنّ أسهم الحرب الشاملة التي ارتفعت إلى أعلى مستوياتها بعيد ضربة الضاحية الجنوبية، عادت لتنخفض إلى حدّ بعيد، ولعلّ هذه النقطة تحديدًا تشكّل "التقاطع المنطقي والواقعي" بين السرديّتين، فـ"حزب الله" فصّل الردّ على مقاس عدم الذهاب إلى مثل هذه الحرب، وفق العارفين، بدليل الضوابط التي تحدّث عنه، فضلاً عن طيّه صفحة استكمال الرد، ولو لم يكن مرضيًا، إلى وقت آخر.

لكنّ المفارقة المثيرة للانتباه بالنسبة إلى العارفين، أنّ إسرائيل أيضًا بطريقة تعاملها مع الهجوم، تبنّت فكرة "عدم تصعيد الصراع" بشكل أو بآخر، فهي بإفراغها ردّ الحزب من مضمونه، وحديثها عن "إجهاض" المخطّط الذي كان ينشده، بدت كمن يقول إنّ الكرة لا تزال في ملعب "حزب الله"، باعتبار أنّ "فشل" الهجوم الذي شنّه يعفيها من الردّ، وهو ما كرّسته أساسًا بقولها إنّ العملية أنجِزت بالنسبة إليها، بل إعلانها عودة "الحياة الطبيعية" إلى المستوطنات.

استنادًا إلى ما تقدّم، يعتقد العارفون أنّ "ما بعد" ردّ "حزب الله" لن يكون كما قبله بالضرورة، بل قد يعيد الأمور إلى "ما قبل" ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت، فالجانبان سيعتبران أنّ الصفحة قد طويت بالمُطلَق، وبالتالي فإنّ "جبهة الإسناد" ستعود للعب دورها الوظيفي كما كانت الحال على مدى الأشهر العشرة السابقة، ولو أنّ الحزب ألمح إلى أنّ الاستنفار الإسرائيلي يجب أن يستمرّ بانتظار ردود سائر قوى محور المقاومة، من إيران إلى اليمن.

هكذا، يفترض أن ينهي ردّ "حزب الله" جدل الحرب الشاملة والواسعة، رغم السرديتين "المتناقضتين" بشأن النتائج المحققة منه، فما كان يُخشى منه أن يوفّر هذا الرد "الذريعة" لتصعيد الصراع قد تبدّد بصورة أو بأخرى. لكنّ إشكاليّة أخرى يخلقها الردّ برأي كثيرين، فماذا لو وجدت فيه إسرائيل "ضمانة" بأنّ الحزب لا يريد الحرب، ووسّعت من أفق عملياتها، التي قد تجد فيها "مصلحة" أكثر من أيّ حرب "تقليدية"، إن صحّ التعبير؟!.